صعد الشيخ أبو إسحاق الحوينى المنبر يوم الجمعة الماضية فقال مما قال :
(( اليوم هو الجمعة الثاني من شهر الله المحرم لسنة ألف وأربعمائة وواحد وثلاثين من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.وأنا لم أصعد هذا المنبر منذ الخطبة الثانية من شهر شعبان من السنة الماضية ولم أكن مؤهلاً اليوم لأن أخطب الجمعة.لكنني أردت أن أصافح وجوهكم مرة أخرى، ولو تكلمت بكلام يسير، فإنني أتمنى أن أموت واقفاً وأن أناضل عن ديني إلى آخر لحظة . شعرت في هذه المدة التي مضت أنني بدون الدعوة لا أساوي شيئاً ، فأردت أن أستمتع بالحياة مرة أخرى، فجئت إلى هذا المكان، لكي أقول كلاما أثبّت به نفسي أولاً، ثم أبث الثقة فيكم مرة أخرى، وأقول إننا منصورون، وإننا لن نُغلب، حتى وإن كانت إمكاناتنا ضعيفة، ما دام معنا إيمان راسخ. نحن ضعاف نعم، وليس في أيدينا ما في أيد أعدائنا أو خصومنا، لكننا إذا رجعنا إلى الشرب الأول زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وزمن الصحابة واستمسكنا بما كانوا عليه فأحلف بالله إننا لمنصورون . أشرف الأعمال قاطبة أن تموت خادماً لهذا الدين، وهذا هو مكمن العز كلّه. صدقوني إذا قلت لكم إنني كنت أشعر أن الرجل الذي يمسك بمكنسة في الشارع كنت أشعر أنه أفضل مني، إنه يقوم بواجبه وأنا عاجز مكبّل وأسأل الله عز وجل أن لا يحرمني من شرف الدعوة إليه والدلالة عليه، فإنني نظرت إلى المناصب كلها لم أجد أشرف من هذا المنصب، أن تكون خادما لدين الله عز وجل لا سيما في الغربة الثانية..))
إنتهى كلام الشيخ الجليل الذى والله أراه ينبغى أن يُحفر فى القلوب ويُطبع على كل جبين ويًلقن للصغار والكبار ، الله أكبر يا أهل الدين يا من تواجهون الدنيا بصدور عارية وأيد خالية لكن معكم دين لا يُهزم ورب لا يُغلب فالله الله فى هذا الدين والله الله فى هذه الأمانة إياكم والخيانة إياكم أن يؤتى الإسلام من قبلكم .
أجد لزاماً على اليوم تأثماً من كتم العلم وأداءاً لحق الشكر أن أحكى للدنيا عن شيخى الأول ، عن الحوينى الذى أعرفه ، فهذا الشيخ الجليل ليس مجرد عالم ولا داعية بل هو جبل نُفخ فيه الروح وهو رجل أوتى أغلى ما يؤتى المرء إلا وهو الفهم السديد والعقل الرشيد ، هو كما قال الإمام أحمد عن الشافعى كالشمس للدنيا والعافية للبدن فهل عنهما من عوض وكما قال عنه أيضاً رجل معه نصف عقل الدنيا . الحوينى الذى أعرفه وأحسبه كذلك والله حسيبه من عينة الرجال الذين تحتاجهم أمتنا فى هذه المحنة الصلعاء التى كادت أن تقضى على كل شىء.
كانت بدايته مع كتاب صفة صلاة النبى صلى الله عليه وسلم بعد صلاة جمعة بمسجد عين الحياة إلتقطه وتصفحه سريعاً فلما تصفحه ألقي الألواح ولاح له المصباح ُ من الصباح وهزَّه هزَّا عنيفاً لكنه كان لطيفاً وهذا ما حدث معى فقد كانت بدايتى بعد صلاة جمعة أيضا حين سمعت محاضرته ( ليلة فى بيت النبى) فبُهت وأُُسقط فى يدى . بظهور الشيخ فى حياتى حدث أكبر تحول فى عالمى على الإطلاق وتغير كل شىء وتم استبدال كل المفاهيم القديمة . أحببته وأحببت كلامه وطريقته فى الحديث أحببت مدينته وشارعه وبيته وأبناءه . وكما كان الألبانى فى حياة شيخى كان شيخى فى حياتى ، بصرنى الله به بعد العمى وهدانى به بعد التيه وعصمنى به من التقلب بين المذاهب .
رحلت إلي الشيخ ووفقت إلى القرب منه ، أول مرة رأيته جعلت أنظر إلى وجهه فكأنه من القرون الأولى ، فى وجهه نضرة أهل الحديث . أول ما تعلقت به فيه السمت والدل وأشد ما بهرنى فيه الفهم السديد وأكثر ما يعجبنى مفرداته الخاصة ولغته شديدة الخصوصية سألته يوماً عن سر هذه اللغة الآسرة وهذه الآثار العجيبة فأنكر أن يكون له ذلك ثم قال إن كان هناك شىء مما تقول فمن إدمان النظر فى سيرة السلف وتراجم الرجال . حضرت بعد ذلك بعض دروس شرح صحيح مسلم فى المسجد وصار الذهاب إلى كفر الشيخ متعة خاصة جداً ، ويعلم الله كم أحببت هذا الطريق رغم خطورته وصار ينتابنى شعور جميل بمجرد أن أتجاوز كشك المرور فى أول الطريق إلى كفر الشيخ
غيرت معرفتى بالشيخ حياتى كما حدث ذلك لكثير من الناس منهم من أعرف قصتهم ومنهم من لا أعرف ومن الذين أعرفهم وجعل الله الشيخ سببا فى هدايتهم أخى وحبيبى فى الله هشام عبد الله صاحب شركة شور للإنتاج الإسلامى والذى ينتمى لعائلة من أكبر منتجى أشرطة الأغانى والموسيقى حكى لى فى لقاء جمعنى به فى قناة الحكمة أن شريطاً للشيخ غير حياته حيث كان مسافراً يوماً فى رحلة ترفيهية ولم يكن ملتزماً فى هذا الوقت وضع شريطاً للشيخ فى مسجل سيارته وكما يقول هو كانت كل كلمه للشيخ تمسح شيئاً من القديم وتضع مكانه الجديد ومع آخر كلمة فى الشريط كنت شخصاً آخر واستدرت بالسيارة لأعود واحداً غير الذى خرج منذ قليل.
كنت أحيانا أنتظرالشيخ أسفل بيته بسيارتى يوم الجمعة قبل الخطبة وكنت أجلس صامتاً وهو بجوارى فى السيارة يلقى نظرة عجلى على عناصر الخطبة وكان يقول لى أنه غالباً لاينام ليلة الخطبة ويذهب ليخطب دون أن ينام وأحياناً يغير الخطبة وهو جالس على المنبر والمؤذن يؤذن . سمعته وهو يبكى فى علموا أولادكم حب الصحابة وكذلك حين اتهمت عائشة رضى الله عنها بأنها أسوأ شخصية فى الإسلام فازددت له حباً وبه تعلقاً وما سمعته قط يقع فى أحد ولا ذكر أحداً بسوء لا فى مجلس خاص ولا عام إلا أن يكون صاحب بدعة فشت بدعته فى الناس ووجب التحذير منه .
ولقد رأيت من كرمه وأخلاقه وفضله ما لا يعلمه إلا الله . وشيخى هذا يا إخوانى إذا رأيته لان قلبى وذهبت قساوته وانجلى من عليه الران بإذن الله . لقد فتح عينى على هذا الدين من زاوية واسعة كبيرة فرأيت إسلاماً رائعاً شعرت بحلاوته فى قلبى وعقلى وحلقى . كنت كلما استمعت إلى محاضرة انكشف أمام الطريق وأُضىء لى السبيل وازددت إعجاباً بهذا الدين و ثباتاً عليه ، عرفت به أن السلفية الصحيحة هى الإسلام
أرجو أن تعذرونى إن أطلت الكلام عنه فمن لم يشكر الناس لم يشكر الله ويكفى أن أقول أننى لم أستطع أن أسمع شيخاً سواه ولقد حاولت كثيراً أن أسمع غيره فلم أستطع وصدق فى ما قاله لى هو أن الشيخ المنشاوى أفسد عليه أذنه فلم يعد يستطيع أن يسمع القرأن إلا منه، شيخى أيضا حفظه الله أفسد على أذنى فلم أستطع أن أسمع غيره .
تعرفت على أسماء أوقعنى الشيخ فى حبها وعلى رأسهم البخارى الذى أشهد الله أن كلام الشيخ عنه جعلنى شديد الحب لهذا الرجل ولا أكاد أسمع إسمه إلا شعرت بخليط من مشاعر الإجلال والحب والعرفان وبدأت أسمع عن إبن تيمية وما فعله بالمبتدعة وبُهت حين سمعته يقول الكلمة التى حق لها كما يقول الشيخ أن تُكتب بماء العيون : ماذا يفعل بى أعدائى أنا جنتى معى بستانى فى صدرى سجنى خلوة نفيى سياحة . تعرفت على يحى بن معين أبو زكريا و أبو نعيم الفضل بن دكين ، عرفت التبوذكى وشعبة والمروزى ويحى بن سعيد وقتادة وهمام وابن المدينى وعرفت الصحيح من الضعيف والإسناد العالى والرواية بواسطة والتحمل والأداء ومن أثبت الناس فى من والإسناد المُذهب وأصح الأسانيد وعرفت من المتساهل فى التجريح والتعديل ومن الجراح وعرفت لماذا سمى كتابه تنبيه الهاجد فيما وقع من النظر في كتب الأماجد ولم يستحسن أن يقول الخطأ تأدباً معهم
تعرفت قبل ذلك على جيل الصحابة ذلك الجيل الفريد الذى لا يكاد الشيخ يتكلم فى أى موضوع إلا ولابد أن يأتى فيه بذكر هذا الجيل وهكذا المُحب كلف بذكر محبوبه . تعلمت منه حب هذا الجيل ونذرت أن أعلم أولادى حبهم كما علمنا الشيخ ذلك ، ومن أجمل من تعرفت عليهم حاتم وهيثم وسفيان وهمام وشعبة وهناد أبناء الشيخ الذكور ولا أنسى فى خطبة للشيخ بمركز بيلا حين كان يتكلم عن زمان الغربة لما حكى عن اليوم الدراسى الأول لولده سفيان حين عاد سفيان من المدرسة يقول للشيخ أنهم لم ينادوا عليه اليوم وهم يوزعون الطلبه على الفصول فلما ذهب الشيخ أكتشف أنهم كتبوه شعبان بدلا من سفيان ، أما شعبة فكنيته أبو بسطام ككنية أمير المؤمنين فى الحديث شعبة من الحجاج . تعلمت من الشيخ أن أولئك أبائى ورددت خلفه متحدياً أن يأتوا بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع وتعرفت على أحاديث نشر الشيخ ذكرها فى الناس كحديث أم زرع وحديث هرقل وحديث يحى بن زكريا ومقتل عمر وحديث ابن الأكوع و جريج العابد وأصحاب الغار وغلام الأخدود وموسى والخضر وقاتل المائة نفس .
إستمتعت بكلامه عن سورة مريم وكيف أن خواتيم الآيات فى أول السورة جاءت رقيقه لتناسب دعاء رجل يتمنى الولد بينما جاءت خواتيم الآيات فى آخر السورة كالزلزال لتناسب الجريمة الكبرى ألا وهى الإدعاء أن لله ولداً، وقصة أكل قشر البرتقال فى المعتقل وقصته حين كاد أن يصبح ضابط شرطة وعمله فى التليفزيون وتعرفت على صيد الخاطر ودخلت مدرسة الحياة .
سمعت معانى جديدة صرت أسيراً لها كحرس الحدود وشرطة الموت وأرتبطت بأسماء الأشرطة التى تختلف عن أسماء أشرطة أى عالم آخر لدرجة أنك من إسم الشريط تستطيع أن تحدد هل هو للشيخ أم لا فغالباً لن تجد للشيخ شريطاً بعنوان التوبه أو أهوال القيامة أو سكرات الموت أو عذاب القبر أو وفاة الرسول أوغض البصر بل (كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة ) أو (من هنا نبدأ )أو (الوصايا قبل المنايا )أو( أولئك أبائى )أو (علموا أولادكم حب الصحابة)
ومن أهم ما تعلمت من الشيخ كيفية توظيف المذاكرة فأنت حين تذاكر فى كتاب من الكتب كفتح البارى مثلاً والحافظ يشرح حديث من أحاديث البخارى فيأتى بأحاديث أخرى فى ثنايا الشرح ويحكم على هذه الأحاديث فأنا آخذ هذا الحكم وأذهب إلى الكتاب الذى رُوى فيه هذا الحديث وأكتب بجانبه حكم الحافظ ابن حجر ثم يقابلنى هذا الحديث مرة أخرى فى كتاب لإبن تيمية فيحكم عليه ابن تيمية فآخذ التعليق وأضعه بجوار التعليق السابق وهكذا كلما وجدت تعليقاً لواحد من الأئمة النقاد وضعته فى موضعه الصحيح حتى إذا عدت إلى هذا الحديث يوما إذا لديك كنز من التعليقات لجهابذة أهل العلم لو كنت حاولت أن تجمعها ابتداءاً ما أحسبك كنت تستطيع أن تحصلها .
كذلك قال الشيخ أن معظم الأمثلة التى ترد فى كتب أصول الفقه لشرح القاعده الأصولية معظم هذه الأمثلة واحدة ومكررة فإذا كان الطالب مجتهداً وواعياً فإنه يستطيع وهو يقرأ فى كتاب كفتح البارى مثلاً أن يستخرج عشرات الأمثلة على قواعد فقهية وأصولية ويضعها فى كتاب الأصول بجوار هذه القاعده .
أذكر وأنا جالس مع الشيخ يوما فى مكتبته فى منزله أنه أمسك بكتاب من الكتب وقال هذه النسخة لا تقدر عندى بثمن فقلت له هل هى مخطوط أصلى نادر؟ قال لا ، قلت له فلماذا لا تقدر بثمن إذا؟ قال لأنها نسختى الخاصة التى دونت عليها تعليقاتى إنها عمرى ثم فتح أول ورقة فى الكتاب وقال فى أول ورقة من الكتاب أنا ألخص الكتاب كله حتى إذا احتجت أن أبحث عن مسأله لا أدرى إن كانت فى الكتاب أم لا يكفينى نظرة واحدة فى الورقة الأولى .
كان الشيخ دائما يعاتبنى على شدة الطبع ويأمرنى بالتحلم لأن الحلم طبع وجبلة وحيث أننى لم أطبع حليماً فينبغى أن أتحلم كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ، وقال لى أن الحلم هو رأس الفضائل وهو سلاح الداعية الأول به يملك قلوب الخلق ، والداعية عديم الحلم محكوم على دعوته بالفشل ولابد ، ولذلك رعى كل الأنبياء الغنم لأن ذلك يدرب على الحلم فلو لم يصبر راعى الغنم على الشارده والقاصية لعاد آخر النهار بلا شاة واحدة وليس من وظيفة الداعية أن يصل إلى النتائج وليس لازماً أن يرى ثمار دعوته بعينيه .
وأخيرا : شيخى الحبيب جزاك الله عنى وعن الملايين غيرى خير الجزاء ولوأنى أقدر أن أزيد من عمرى فى عمرك لفعلت فإن موتى موت رجل واحد وموتك ذهاب لعلم وخير كثير ، لو أقدر أن أعطيك من عافيتى لفعلت ، أسأل الله أن يعافيك من كل سوء وأن يجعلك ممن طال عمره وحسن عمله .
وأخيراً أختم بما يختم به الشيخ : أسأل الله أن يجعل هذا العمل زاداَ إلى حسن المصير إليه , وعتاداَ إلى يمن القدوم عليه , إنه بكل جميل كفيل , وهو حسبنا ونعم الوكيل