في هذا العصر الذي أصيب باختلاط المفاهيم أوشكت قضية مقاصد الشريعة أن تتخذ سلما يستخدمة نفر من الناس.. عن سوء فهم أو عن سوء قصد لهدم بناء الشريعة ذاتها.
والإتيان عليها من القواعد!! فمقاصد الشريعة قضية ذات طرفين: طرف الشريعة ذاتها بما تشتمل عليه من أحكام مستقاة من الكتاب والسنة, ومن تكاليف يؤديها المسلم ويمتثل لها, ثم طرف المقاصد أو المعاني والحكم التي تهدف تلك الأحكام والتكاليف إلي إنجازها وتجسيدها كثمرة متوخاة ونتيجة منتظرة.
إذن فلا يصح أن يقفز امرؤ إلي تلك المقاصد قفزا دون أن يكون طريقه إليها وسبيله إلي تحصيلها: هو أداء تلك الأحكام والتكاليف من قبل, ولا يصح الحديث عن مقصد من مقاصد الشريعة دون أن تكون الشريعة ذاتها بما تتضمنه من الأوامر والنواهي ــ قد أنجزت إنجازا, وامتثلت امتثالا!!
بيد أن هؤلاء النفر من الناس يعمدون إلي الطرف الأول ــ طرف الالتزام بالاحكام والتكاليف ـ فيطيحون به, أو يصغرون من شأنه, لكي يقفزوا إلي الطرف الآخر ــ طرف المقاصد ــ زاعمين أنه الاجدر بالاهتمام, والاولي بالعناية والرعاية, عن أي طريق تحقق, وبأي سبيل كان سواء بطريق التكاليف والواجبات التي حددتها الشريعة, أو بغيرها!
بهذا المنطق الكاسد انبري من يقول: مادام المقصد من العبادات( الصلاة والزكاة والصيام والحج) أو من تفصيلاتها وجزئياتها: هو تربية الروح, وتهذيب النفس, وتنقية الضمير فلا عبرة بهذه الاشكال العبادية بل العبرة بالمقاصد, والقلوب والبواطن!!
ــ وبهذا المنطق الكاسد أيضا انبري من يقول إن التفرقة الشرعية بين الذكر والانثي في أنصبة المواريث كانت مرهونة بعصور لها ظروفها ومقتضياتها, وكان المقصد منها إقامة العدل والمساواة بين رجال يقولون الإنفاق دون النساء, فإذا تغيرت الظروف والمقتضيات فلا بأس من أن تتساوي أنصبة الرجال والنساء, مادام العدل قد تحقق والمساواة قد أنجزت!
وبهذا المنطق الكاسد كذلك انبري من يقول: مادام مقصد الاسلام من لباس المرأة هو العفة والفضيلة, فلا معول بعدئذ علي الحديث عن حجاب أو نقاب, فكلها شقائق نقاش بلا طائل!!
وفي الحق أن المحققين من علماء المسلمين حين عمدوا إلي الحديث عن المقاصد الشرعية فإنهم أمعنوا النظر في الواجبات والتكاليف الشرعية, ثم استقرأوا المعاني والحكم التي تسري منها مسري الروح في البدن, دون أن يفرضوا علي تلك التكاليف: هدفا من خارجها, أو يقحموا عليها معني مصطنعا منفصلا عنها, بل اقتنصوا تلك المقاصد والمعاني والحكم من خلال تلك الواجبات والتكاليف التي تشير عليها, وتسير اليها, وتهتف بها, وتصطحبها في اتساق فريد.
فالمقاصد الشرعية إذن: هي النسيج الباطني للتكاليف الشرعية, فكيف يتصور عاقل أن تنفصل هذه عن تلك؟؟.. أو تتحقق هذه بدون تلك؟ كيف يتحقق الهدف والمقصد والمعني من الصلاة والزكاة وغيرها من الفرائض, أو من نظام التوارث, أو من حجاب المرأة: دون أن يسلك المسلمون الطريق الأوحد إلي تلك المقاصد السامية, وهو إنفاذ تلك الواجبات والتكاليف الشرعية التي نصت عليها آيات الكتاب, وصحيح السنة؟
إن هذه الواجبات والتكاليف ستظل واجبات وتكاليف إلهية يمتثل لها المسلم ويستجيب لها باعتبارها غايات مقصودة لذاتها, لا باعتبارها وسائل فحسب, وسيجد حين يمتثل لها ويضطلع بها: العفة والطهارة, والعدالة, والمساواة, ونقاء النفوس, وراحة الأرواح, أما أن تتحقق له تلك الثمرات دون التزام بشرع, أو إمتثال لتكاليف: فذلك هو الضلال البعيد!! وفي الحق أن هذه القضية الجليلة ــ قضية المقاصد ــ تلك التي شكلت جانبا أصيلا من جوانب الابتكار الاسلامي في تجلياته الرفيعه: قد أصابها ما أصابها من غبش الرؤية وضلال التصور علي أيدي طائفتين وقفت كلتاهما من أختها موقف النقيض.
أما أولي الطائفتين فهي الطائفة التي غلبت عليها الشكلية والحرفية المتحجرة, فافرغت التدين من مضمونه الحي, وغفلت عن مقاصده السامية التي تنفذ إلي أرحب أعماق الانسان, وأغرقت المسلمين في جب عميق من الاشكال الجوفاء, والمظاهر الصماء, في إدعاء عريض بنسبة هذا كلة إلي السلف, وما هي من السلف بسبيل!
أما ثانية الطائفتين. فقد أمسكت بطرف النقيض, ففصلت بين الشرع وبين مقاصد الشرع, وبين لحمة الدين وسداه, فضلت عن الأمرين معا, وضلت بعدهما عن سواء السبيل!!