من يمعن النظر فيما يدعي( القراءات الجديدة للقرآن) تلك التي تروج لها طائفة من التنويريين والحداثيين في مشرق العالم الإسلامي ومغربه, ثم يقارن بينها وبين ما صنعه كثير من المستشرقين في نقدهم للإسلام: يروعه ما يجد من تفاوت جوهري بين الفريقين في المنهج والغاية!!
فلقد كان جهد أولئك المستشرقين ينصب علي توجيه انتقادهم للإسلام من خلال ما يعتقدون أنه' مثالب' له, أو نقائص في تعاليمه ونظامه السياسي أو الاجتماعي, دون أن يتجاوزوا ذلك ـ في الأعم الأغلب ـ إلي النفاذ في قلب التكوين الجوهري لكيان الإسلام ذاته, أما تلك الطائفة من التنويريين والحداثيين فإنهم لا يكتفون بتلك الانتقادات الاستشراقية التي لا تكاد ـ في نظرهم ـ تتجاوز القشور إلي الجذور لأنهم يذهبون إلي ما هو أبعد مدي من ذلك, فهم يعمدون إلي انتقاد الإسلام في عمق أعماقه, سعيا إلي إعادة تأسيس مقوماته من جديد, واستهدافا لأن يعود إليه ذلك الوجه الذي يزعمون أن التراث الديني للمسلمين ـ منذ الجيل الأول من الصحابة والتابعين حتي الأجيال المتعاقبة من الفقهاء والعلماء: قد قام بطمسه وطمره, حتي ضعفت طاقاته الإبداعية!!
فرسالة الإسلام إذن ـ كما فهمتها هذه الأجيال ـ ليست ـ في زعم تلك الطائفة ـ هي الرسالة التي جاء بها النبي( صلي الله عليه وسلم) علي حقيقتها, لأن تلك الأجيال لم تفطن إلي تلك الطاقات الإبداعية الكامنة فيها, بل إن بعض المبادئ الفقهية قد وضعها أناس كانوا' ضدا' علي المبادئ القرآنية!!
لا مناص ـ في نظرهم إذن ـ من طرح تلك الأفهام التي أجمعت عليها الأمة, ونبذها ظهريا, فلقد كانت أفهاما تفسر القرآن الكريم من خلال ارتباط الألفاظ بالمعاني, وارتباط الألفاظ بدلالاتها اللغوية في لغة العرب التي نزل بها القرآن الكريم, وبذلك كانت للمفاهيم القرآنية: دلالاتها الثابتة, وحقائقها الراسخة.
لكن التنويريين والحداثيين يرفضون مثل هذا' الثبات', لأنهم يرفضون رسوخ تلك المفاهيم, و'صلابتها', و'استقرارها', فمبتغاهم هو أن تظل تلك المفاهيم القرآنية من خلال قراءاتهم الجديدة ـ مفتوحة غير مغلقة وفضفاضة غير محددة, وغير محددة حتي تبقي علي الأيام قابلة لكل تفسير, خاضعة للتغير المستمر الذي يفرضه الواقع والتاريخ, ويظل القرآن ذاته ـ كما يقول أحدهم بالنص الحرفي ـ' مجموعة من الدلالات والمعاني الاحتمالية المقترحة علي كل البشر, وتظل مفاهيمه مؤهلة لأن تنتج خطوطا واتجاهات عقدية متنوعة بقدر تنوع الأوضاع والأحوال التاريخية', وبقدر تعدد القراءات والقارئين!!
وطبقا لهذا الفهم ـ الذي تتعدد فيه الرؤي والقراءات القرآنية تبعا لتعدد تيارات الواقع وتقلبات الظرف الاجتماعي المحيط, فلا يحق لأحد أن يرفض من أي أحد قراءته الخاصة, مهما بلغت من الشطح والإغراب والشذوذ, والبعد عن دلالات اللغة ومواضعاتها.
والأخطر من ذلك أن تلك القراءات المفتوحة علي مصاريعها تفتح الأبواب علي مصاريعها أيضا لضروب شتي من' التدين' لا يضبطها نص ولا شرع ولا نظام, فكما أن لكل ذات فردية الحق في أن يكون لها قراءتها الخاصة انعكاسا للواقع الذي تعيش فيه, فإن لكل ذات فردية: الحق في أن تحدد الطريقة التي تتدين بها, إذ لا ينبغي ـ كما يقول أحد الزاعمين ـ أن تقف صور التدين عند صورة واحدة, بل تتعدد تلك الصور تبعا لتعدد القراءات, وتتكثر تبعا لتكثرها!!
والأكثر خطورة من ذلك أيضا إنه إذا كان من حق الإنسان الفرد أن يحدد تدينه الخاص تبعا لقراءته الذاتية الخاصة: فإن' للجماعة' البشرية أن تكون لها قراءتها الخاصة لما ورد في القرآن الكريم خاصا بالجماعة, وإذا كان القرآن الكريم قد تضمن في آياته أحكاما للمعاملات التي تجري بين أفراد الجماعة, وتحدد طرائق تصرفاتهم فإن تلك الأحكام لا تتعدي بخطابها التكليفي جماعة المخاطبين بتلك الآيات زمن النزول, أولئك الذين يعيشون زمنا معينا وتسري عليهم أوضاع اجتماعية وثقافية معينة, أما حين يختلف الزمان فإنه يصبح لكل جماعة في زمنها: الحق في' قراءة' تلك الأحكام التكليفية التشريعية علي النحو الذي تريد, كما أن لها الحق في تصورها علي النحو الملائم لزمانها وواقعها دون أن تتقيد بحرفية الأحكام التشريعية الواردة في القرآن الكريم لأنها ـ كما يقول أحد أولئك الزاعمين ـ إنما' تصف واقعا أكثر مما تضع تشريعا'!!
ثم أقول: كيف يتقبل العقل السليم الذي اعتصم بالعقل من أغاليط السفسطائيين قديما, ومن النزعات الإرتيابية حديثا: مثل هذه النسبية المفرطة التي لا بقاء معها لقانون من قوانين الفكر المستقر, ولا ثبات معها للحقائق التي يرتكز عليها العقل الإنساني الرشيد ؟
وإذا كان القرآن الكريم مفتوحا لتلك القراءات التي قد تتباين وتتناقض وقابلا لكل تفسير مهما كان انفلاته: يتم اقحامه أواسقاطه علي آياته المحكمات فسوف يكون آنئذ ـ وحاشاه ـ فضاء مستباحا للمتباينات المتناقضات فهل يكون والحال هذه' تبيانا لكل شيء' و'هدي للعالمين' ؟
وهل يتقبل الوعي المسلم أن يتهم التاريخ الفكري الإسلامي بأسره ـ بالغفلة عن الفهم الصحيح لدينه, وهل يعقل أن يحدث ذلك لأمة قد ضمن لها رسولها الكريم ألا تجتمع علي ضلالة ؟
ثم كيف يتقبل الوعي المسلم أن يكون لكل فرد الحق في أن يكون له تدينه الخاص علي النحو الذي يختاره عقله, وهل يسمي حينئذ مثل هذا: دينا يرتضيه العقلاء الذين يفهمون الدين علي أنه' رسالة' أنزلها الله تعالي إلي البشر لتتبع تعاليمها, وتطاع أحكامها, وبغير تلك' المهمة الرسالية' لا يكون ما نتحدث عنه دينا ؟؟
وكيف يتقبل الوعي المسلم أن تحدد كل جماعة لنفسها طرق تدينها الذي يمثل علاقة بين الإله المعبود, والبشر العابدين, ومن ثم فإن ذلك الإله المعبود هو الذي يحدد طريق التدين ويرتضيه؟
وكيف يتقبل الوعي المسلم أن ترسم كل جماعة لنفسها أحكاما' للتعامل', ثم تسمي هذه الأحكام' دينا' تطيع به الإله المعبود, دون أن تضع في الاعتبار أن ذلك الإله المعبود هو الذي يحدد للبشر ما يطاع به من السلوك والمعاملات؟
ثم أي مصير سيئول إليه( الدين) في هذا الفهم الكليل المصطنع الذي تخيله التنويريون والحداثيون, وهو فهم تنخر فيه النسبية والذاتية حتي أقصي الآماد؟
ثم أقول: لئن كانت هذه القراءات الجديدة ـ في حكم العقل ـ ضربا من اللغو العابث, فهي ـ في حكم الدين ـ ضلال مبين!!
=====================================================
بقلم : د. محمد عبدالفضيل القوصي عضو مجمع البحوث الإسلامية