لم يكتف الإسلام ببث التعاليم عن السلوك السوي والأخلاق الكريمة بين أبنائه, بل ربي المسلمين علي الالتزام بها عمليا, والعمل علي تطبيقها,
وكان النبي صلي الله عليه وسلم أول من قام بالتطبيق العملي لما نص عليه القرآن الكريم من مبادئ التسامح مع غير المسلمين, وكانت بداية التطبيق العملي لمبدأ التسامح ذلك منذ قدومه صلي الله عليه وسلم مهاجرا إلي المدينة المنورة,فعمل من أول وهلة علي تأسيس الدولة الإسلامية;حيث أبرم عليه الصلاة والسلام في السنة الأولي من الهجرة النبوية وثيقة أو معاهدة بين المسلمين وطوائف المدينة, وهي الوثيقة السياسية الأولي, واشتملت علي سبع وأربعين قاعدة في علاقة المسلمين بغيرهم.
وعلي أثر هذه الوثيقة زادت رقعة معاملة المسلمين لغير المسلمين علي عهد النبي صلي الله عليه وسلم علي أساس مبدأ التسامح الذي فاضت به نصوص القرآن الكريم, وبينته السيرة النبوية قولا وفعلا بعد ذلك.
وتعد هذه المعاهدة الوثيقة الأولي التي احتوت علي بنود محققة للمواطنة,فبالنظر إلي هذه الوثيقة الدستورية نجد أنها تقر بنود المواطنة وحقوق المواطنين وواجباتهم,من النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية.
ونستطيع أن نتبين تلك الأسس من خلال تحليلنا لأهم ما ورد بتلك الوثيقة:
1- فقوله صلي الله عليه وسلم:أنهم أمة واحدة من دون الناس يقر فيه مبدأ الوحدة الوطنية بين ساكني الدولة الواحدة, فهم رعايا الدولة أو شعب الدولة في ذلك الوقت.
2- وقوله:وأن من تبعنا من يهود, فإن له النصرة والأسوة غير مظلومين ولامتناصر عليهمينص فيه علي ضرورة مناصرة المواطنين غير المسلمين والوقوف إلي جوارهم,تأكيدا لحقهم في ذلك علي المسلمين ضد أي اعتداء عليهم.
3- وقوله:وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين, لليهود دينهم, وللمسلمين دينهم: مواليهم وأنفسهم, إلا من ظلم وأثم, فإنه لا يوتغ( يهلك) إلا نفسه وأهل بيته إعلان صريح للوحدة الوطنية بين طوائف المجتمع, قانونها العدل,دون الظلم والاعتداء, وعلي الظالم أن يتحمل عاقبة ظلمه.
4- وقوله:وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين يقرر من خلاله مبدأ المساواة بين المواطنين من مسلمين وغيرهم في مؤازرة الدولة إقتصاديا حال محاربتهم للأعداء, كما يقر فيه ضرورة الموالاة والنصرة بين الطرفين ضد العدو.
5- وقوله:وأن علي اليهود نفقتهم, وأن علي المسلمين نفقتهم يقر فيه مبدأ التكافل الاقتصادي عند توزيع الأعباء الاقتصادية علي فئات المجتمع بكل أطيافه.
6- وقوله صلي الله عليه وسلم:وأن ليهود بني النجار...وأن موالي ثعلبة كأنفسهم يقر فيه مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين المسلمين ومختلف طوائف الدولة في كنف الدولة الإسلامية.
7- وقوله:وأن بينهم النصر علي من حارب أهل هذه الصحيفة, وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم يحدد فيه أولويات المناصرة بين أهل هذه الصحيفة وبين أعدائهم الذين يحاربونهم, وهذا مفهوم عسكري دفاعي,مع توضيح ضرورة التعاون في إبداء الرأي والنصيحة والتشاور, وهذا مفهوم اجتماعي أصيل للمواطنة.
8- وقوله صلي الله عليه وسلم:وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا, ولا يحول دونه علي مؤمن يمنع أي تعاون بين طوائف المجتمع وأعدائه,سواء في حماية النفوس أم الحفاظ علي الأعراض والأموال.
9- وقوله:وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه يوضح فيه بيان مبدأ المسئولية الشخصية وتقريره للفرد والجماعة علي حد سواء,فكل إنسان مسئول عما اقترف, وهذا مبدأ من مبادئ الإسلام السمحة, أنه لا يعاقب الجماعة أو يؤاخذها بسلوك فرد, انطلاقا من قوله تعالي:( ولا تزر وازرة وزر أخري)(الأنعام:164), وقوله سبحانه:(كل امرئ بما كسب رهين)( الطور:21), وقوله تعالي:( كل نفس بما كسبت رهينة)(المدثر:38),وهذا غاية العدل والإنصاف.
10- وقوله:وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة أبلغ دليل من النبي صلي الله عليه وسلم علي تحديد نطاق مفهوم المواطنة الجغرافي وانتماء المواطن لوطنه.
11- وقوله:وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها يقرر فيه قطع أي تعاون عسكري مع أعداء الوطن ومعاونيه في الظلم.
12- وقوله:وأن بينهم النصر علي من دهم يثرب, وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم ينص فيه النبي صلي الله عليه وسلم علي مبدأ أصيل من مبادئ المواطنة; وهو وجوب الدفاع عن الوطن,كما ينص علي أن النصر يكون دائما في حال الحق والعدل, لا في حال الظلم والإثم, فلا يعطي حق المواطنة للمواطن حق البراءة إذا ظلم أو أثم,لأن الدين الإسلامي يناصر الحق ويقف بجواره, وينهي عن الباطل ويواجهه.
هذا بعض ما قررته الوثيقة وبنودها من حقوق المواطنة منذ عهد النبي صلي الله عليه وسلم; إذ نصت علي أن جميع المواطنين( مسلمين وغير مسلمين) يعاملون علي أساس واضح من المساواة, فليس هناك مواطنون من الدرجة الأولي, وآخرون من الدرجة الثانية أو الثالثة, فاعتبار العقيدة لا وجود له, والجميع أمام الشريعة وأحكام الحقوق والواجبات سواسية لا فرق بينهم.
ومن ثم كانت هذه الوثيقة مثلا أعلي للمواطنة أقرت بحقوق المواطنين في الوطن الواحد,وبينت أنه لا فرق بينهم في تحمل المسئوليات, وأنه لا حق لأحد أن يمنح شيئا من التمييز علي حساب الآخر, أو أن يفرق بينه وبين غيره علي أساس عقدي أو عنصري; فالإسلام يقرر أن معيار التمييز والتكريم هو العمل الصالح وخدمة المجتمع والحفاظ علي أمنه وسلامته.
===========================================
بقلم: د. علي جمعة