جاء الإسلام منظما لحياة البشر, مؤكدا علي ضرورة الترتيب بين الأشياء بحسب أولويتهاوأهميتها بالنسبة للفرد المسلم وللأمة السلمة, قال تعالي:( واتبعوا احسن ما أنزل اليكم من ربكم).
الزمر:55], وقال أيضا:(أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لايستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين), التوبة:91] وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم ردا علي سؤال حول أي الجهاد أفضل ؟ فقال: 'كلمة حق عند سلطان جائر', سنن النسائي161/7].
إن تنظيم حياة الانسان أولاه الاسلام أهمية كبري ينصب في صالح الانسان مقدم علي البنيان, كما ان مقاصد الشريعة تحث علي أولوية الحفاظ علي الانسان وهي: حفظ النفس والعقل والدين والعرض والمال, لذا فترتيب الأولويات من اهم العوامل التي تعمل علي حفاظ الإنسان.
ولكن في أغلب الاحيان نجد ان كثيرا من المسلمين يتناولون مسائل فرعية ثانوية لاتغني ولا تسمن من جوع, فانشغلوا بالحديث عن المكروهات والمندوبات وقضايا كثر فيها خلاف الفقهاء, لاهين عن انتشار المحرمات وضياع الفروض والواجبات, وفي هذا يقول الإمام الغزالي: وفرقة أخري حرصت علي النوافل ولم يعظم اعتدادها بالفرائض, تري احدهم يفرح بصلاة الضحي وبصلاة الليل وأمثال هذه النوافل, ولا يجد للفريضة لذة ولايشتد حرصه علي المبادرة بها في اول الوقت وينسي قوله صلي الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه:( ماتقرب الي عبدي يمثل اداء الفرائض) مؤكدا ان ترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور وواصفا من لم يحفظ الترتيب في ذلك بأنه مغرور., إحياء علوم الدين29/3], وهذه الخلافات علي النوافل والمندوبات والمبالغة والإسراف في الشكليات والمظاهر في مجالات الحياة اليومية تؤدي الي ضياع المقاصد والمعاني وضياع الجهد والوقت وتوسيع دائرة الخلافات بين المسلمين, وهو أمر يخالف تعاليم الشريعة, قال تعالي:( وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتقشلوا وتذهب ريحكم), الأنفال:64].
وهم بذلك انشغلوا عن تحقيق الأمر الإلهي من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وفي هذا يتحقق قول ربنا سبحانه وتعالي في ذم بني اسرائيل:( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل علي لسان داوود وعيسي ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون), المائدة:87 ـ97].
إن اختلال الموازين هذا عالجته الشريعة من خلال الحث علي الفهم الصحيح للواقع المعيش وإدراك المقاصد الكلية والأهداف الرئيسة من التعاليم والمباديء التي أقرتها الشريعة, فإدراك الواقع وفهمه حري بأن يؤدي الي استنتاجات واضحة, ونتائج سليمة, وحكم صحيح, وفي ذلك يقول ابن القيم حول الحاكم والمفتي: ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوي والحكم بالحق الا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتي يحيط به علما, والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع, اعلام الموقعين88/1].
فالمسلم مطالب بالسعي نحو الأفضل والاكمل وتقديم الاولي وتحصيل المصالح دون المفاسد, وهو بذلك مطالب ببذل قصاري جهده لتحقيق الاولي في كل مايقوم به من اعمال دنيوية واخروية, بل حث الإسلام علي ضرورة الوصول الي الكمال او بذل الجهد في الوصول اليه.
كما ان بعضا من المسلمين أساءوا التقدير في تقديم المصالح والمفاسد, حيث يغيب عنهم فقه الواقع والقدرة علي استنباط الأحكام التي تتناسب وتطورات العصر ومعطياته التي تنبثق عنها قضايا مصيرية وملحة تقتضي وحدة المسلمين والتفاتهم لمواجهتها والعمل علي حلها.
إن الاهتمام بالقضايا الكبري التي تهم الأمة الاسلامية في العصر الحديث واجب علماء الأمة ومفكريها وأولي الأمر فيها, فالاهتمام بالبحث العلمي, وتطوير التعليم, وتنمية الاقتصاد القومي للبلاد, وتفعيل المشاركة الإيجابية في العمل الوطني بين شرائح المجتمع المختلفة, أولي من تكرار حج وعمرة أو بناء مسجد بجوار مسجد, كما ان المساهمة في المشاريع الخيرية وعلاج المرضي ورعاية الأيتام وإيجاد أعمال لمن لا عمل لهم أولي من إنفاق الأموال الطائلة في مظاهر وشكليات لا فائدة منها.
-----------------------------------------------------------------------------------------------
بقلم: د. علي جمعة