لقد جبل الإنسان بفطرته علي حب الوطن والشعور بالانتماء إليه, ويشترك في هذا جميع الناس علي تنوع اعراقهم واختلاف مشاربهم, وعندما جاء الإسلام دين الفطرة والإنسانية لم يقف في وجه هذا الميل الطبيعي بل أقر ذلك ودعا إليه,
وجعله سبيلا للعمل الصالح وفعل الخيرات وزيادة التماسك بين أبناء الوطن الواحد, وضرب لنا رسول الله صلي الله عليه وسلم أعظم الأمثلة في بيان ذلك حين خرج من مكة مهاجرا فالتفت إليها وأعرب عن شعوره الجياش نحوها, فقال: 'ما أطيبك من بلد وأحبك إلي, ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك'( سنن الترمذي723/5) لقد كانت تلك الكلمات المفعمة بالانتماء تعبيرا صادقا عن حبه صلي الله عليه وسلم لوطنه الذي نشأ فيه, وترعرع في أكنافه وعرف كل جنباته وأمضي فيه سنوات شبابه وكهولته.
والمثال الآخر له صلي الله عليه وسلم خاص بالمدينة المنورة حين عاد من إحدي غزواته, فعن أبي حميد قال خرجنا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم في غزوة تبوك, وساق الحديث وفيه: فخرجنا حتي أشرفنا علي المدينة فقال: 'هذه طابة, وهذا احد وهو جبل يحبنا ونحبه'( صحيح مسلم1011/2).
إن هذه النماذج العملية المعبرة تبين كيف راعي الإسلام العاطفة الإنسانية ومنها تعلق المرء بوطنه وحبه له. شريطة ألا يكون ذلك الشعور مجرد عاطفة غامرة أو مشاعر جياشة فحسب, بل لابد أن يصاحبه إحساس بالمسئولية وقيام بالواجبات انطلاقا من المثل المحسوس الذي ضربه رسول الله صلي الله عليه وسلم حين قال: 'مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد, إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمي'( صحيح مسلم1999/4), إن الوعي بالمعني الصحيح لمفهوم المواطنة يستدعي وقوف الجميع علي قدم المساواة في الحقوق والواجبات, فالنبي صلي الله عليه وسلم قرر في وثيقة المدينة أن جميع أبناء الدولة يد واحدة علي من سواهم, يدفعون التهديد والعدوان عن أرضهم, ويتعاونون فيما بينهم لتحقيق مصالحهم, وحفظ دمائهم وحقوقهم وكرامتهم, فإذا فعلوا وحرصوا عليه بكل غال ونفيس أصبح الوطن حصنا يحمي أبناءه, وغدت المواطنة حصانة للجميع, ولو نظرنا في تاريخ الحضارة الإسلامية علي مر العصور لوجدنا الأمثلة الصادقة علي تحقق معني المساواة في المواطنة بين أبناء الوطن الواحد ولذلك كانت المساواة مطلبا إسلاميا, فبها يقوي الوطن ويتماسك المجتمع وتصان كرامة الفرد.
إن الوطن الذي نعم أبناؤه بالأمن والطمأنينة في أكنافه, وتقلبوا بين حناياه وجوانبه, ونمت أعوادهم من خيراته وثمراته, ليحتم علي كل فرد أن ينهض بواجباته تجاه وطنه, ومن أهم تلك الواجبات: الأمن والبناء, فأما الأمن في الأوطان فهو من النعم الكبري التي منحها الله عباده وامتن عليهم بها, ومن مقررات ذلك وأمثلته ماحكاه الله تعالي عن أهم ما تميز به أهل مصر, فقال سبحانه في فيما حكاه عن يوسف عليه السلام في مقام الامتنان:( رب اجعل هذا البلد آمنا)( إبراهيم:35): وقد حثنا رسولنا محمد صلي الله عليه وسلم علي ان نكون مصدر أمن وأمان, وسبيل طمأنينة وسلام, في كل زمان ومكان فقال: 'أفشوا السلام وأطعموا الطعام'( سنن الترمذي652/4) بل أمر أن يكف المسلم الأذي عن الناس وأن يسلم الناس من إساءته واذاه, فقال صلي الله عليه وسلم: 'المسلم من سلم الناس من لسانه ويده, والمؤمن من أمنه الناس علي دمائهم وأموالهم'( سنن النسائي104/8).
إن تحققنا بصفات المؤمن الصادق تستوجب منا أن ندرأ الفتنة ونمنع قيامها, وأن نئد الإشاعات الكاذبة والإرجافات المغرضة, وأن نبتعد عن ترويع الآمنين وتخويف أبناء الوطن بل وغيرهم من المسالمين.
الواجب الثاني الذي يتحتم علي الجميع القيام به تجاه الوطن هو واجب البناء, فبناء الوطن من مقتضيات الاستخلاف في الأرض وإعمارها, قال تعالي:( هو أنشاكم من الأرض واستعمركم فيها)( هود:61), فكل منا في موقعه مستخلف ومطالب بالبناء علي قدر ماحباه الله من سعة وقدرة وعلم, ويمكن القيام بذلك الواجب في مجالات شتي, منها الحفاظ علي الممتلكات والمرافق العامة, والحرص علي خيرات الوطن وثرواته ومكتسباته, ومنها ايضا الحفاظ علي البيئة بكل صورها كإماطة الأذي عن الطريق, والكف عن الإسراف أوإهدار الموارد مهما قلت أو كثرت, بل يتحقق بناء الوطن في أبسط صوره في إتقان العمل النافع المفيد.
إن حب الوطن لاينبغي أن يقف عند المشاعر والعواطف, بل لابد أن يترجم إلي سلوك صالح نافع للفرد والمجتمع.
------------------------------------------
بقلم: د. علي جمعة