معاملة الرسول عليه الصلاة والسلام للنشء
حامد المهيري
في القرآن الكريم آيات عديدة تدعو الإنسان ليستخدم عقله حتى تنكشف أمامه الحقيقة، وهناك أمثال لا تحصى لتحريك سواكن الفكر البشري، لا يستطيع أن يعقلها إلا العالمون بدليل قول الله تعالى "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون" "العنكبوت آية 43".
ولهذا نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لابن عمه وصهره علي بن أبي طالب رضي الله عنه "إذا تقرّب الناس لخالقهم بأبواب البر، فتقرّب أنت إليه بعقلك" ويقول لابن عباس حسب ما رواه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال "يا غلام، أو يا غليّم، ألا أعلّمك كلمات ينفعك الله بهن؟" فقلت "بلى" قال "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، قد جفّ القلم بما هو كائن فلو أن الخلق جميعا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يقدروا عليه، واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الشدة وأن مع العسر يسرا".
هذا الحديث ولئن كان يبدو موجها لشاب أو طفل فهو دليل لكل المسلمين الذين آمنوا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومرشد إلى العقائد الصحيحة، وأعمال الدين والدنيا، وفيه تزكية للنفوس بالفضائل ومكارم الأخلاق؛ ويدل بوضوح على عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالأطفال الناشئين والاهتمام بتربيتهم وتهذيبهم.
إن المتأمل في ما تركته قرائح الفكر الإنساني لرسم خطة ناجعة ناجحة، في تربية النشء وتكوينهم ليكونوا صالحين للمستقبل الذي ينتظرهم قادرين على احتمال الأعباء الثقيلة التي ستلقى على عواتقهم، لم تبلغ مرتبة النبي العربي الأمي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في استئثاره بالتربية النفسية العملية، فقد ربى عليه الصلاة والسلام جيلين من الطفولة إلى الشباب، ومن الشباب إلى الشيخوخة، ونحن نراه في جميع مراحل هذه الأطوار يساير الطبيعة الإنسانية مسايرة محكمة دقيقة، ومراعيا فيها نظام الطبائع وتبدل الغرائز، بحيث لا تصادم الأمزجة، ولا تعاكس الفطرة.
تابعوا معي كيف عامل الرسول عليه الصلاة والسلام الأطفال: روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قاعدا في موضع فطلع الحسن والحسين فاعتركا، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام "وعليّ جالس ويهًا حسين خذ حسنا" فقلت "تؤلب على حسن، وهو أكبرهما يا رسول الله؟" فقال: "هذا جبريل قائم وهو يقول: "ويها حسنا خذ حسينا".
وما كان يمنعه الوقار أن يشاركهم المداعبة والمجاملة كما يصنع الأقران مع بعضهم؛ روى أبو هريرة عن جابر قال "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمشي على أربع وعلى ظهره الحسن والحسين وهو يقول: "نعم الجمل جملكما، ونعم العدلان أنتما". ولم يقتصر عطفه على أبنائه وأحفاده وأقربائه، بل كان يشمل برعايته وعنايته البعيد كالقريب، ولا فرق عنده بين أبناء القرشيين الهاشميين والموالي المملوكين، كلهم عنده سواء بالعطف وحسن التربية.
قالت عائشة "عثر أسامة بن زيد بعتبة الباب فشج في وجهه، فقال لي رسول الله "أميطي عند الأذى" فقَذِرْتُه، فجعل رسول الله يميط عنه الأذى بنفسه ويباسطه ويدلّله، فيقول: "لو كان أسامة جارية لكسوته وحليته"". قال أسامة "كان رسول الله يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن بن علي على فخذه الأخرى ثم يضمنا ثم يقول "اللهم إني أرحمهما فارحمهما"".
كان عليه الصلاة والسلام يصنع هذا مع الناشئين، ويدعو الناس لأن يسلكوا في تربيتهم هذا المسلك بل ربما أمر به وحذّر من الصدوف عنه، ففي البخاري عن أبي هريرة قال "قبّل رسول الله الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي فقال "إن لي عشرة من الولد ما قبّلت واحدا منهم" فنظر إليه رسول الله ثم قال: "من لا يرحم لا يرحم"".
فالرسول يفعل هذا مع الصغار ليعدهم أتم إعداد، فتشحذ مشاعرهم، وترهف حواسهم ويستفتح وعيهم حتى إذا جاوز الغلام هذا السن، ومشى إلى العاشرة فما فوقها من العمر، اعتمد شكلا آخر من أشكال التربية. فتوجهه يسير تبعا لقاعدة التربية القائلة "عامل ولدك معاملة الرجال لا يلبث أن يصبح رجلا" هذه الحكمة في التربية جعلت من علي بن أبي طالب خليفة عالما عادلا عبقريا، وجعلت من ابن مسعود قارئا عالما، وجعلت من ابن عباس عالما أكبر وهو لا يزال شابا، وجعلت من أسامة بطل الأبطال وأمير الرجال.
ونتج عن هذه التربية القوية المتينة أن جعل الغلمان والفتيان يستبقون إلى العمل، فأسند عليه الصلاة والسلام إلى زيد بن ثابت راية بني النجار يوم تبوك وعمره نحو من عشرين سنة، وسلم لعلي رضي الله عنه راية بدر وهو بين إحدى وعشرين واثنتين وعشرين، حتى إذا كانت غزوة خيبر وتأخر الفتح قال عليه الصلاة والسلام "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله" قال سعد: "فبات الناس يدوكون "يخوضون" ليلتهم أيهم يعطيها"؟ فقال "أين علي بن أبي طالب؟" فقالوا "يا رسول الله، إنه يشتكي عينه"، قال "فأرسلوا إليه" وفي رواية "أن الرسول أعطى أبا بكر فرجع ولم يكن فتح، وأعطاها عمر فرجع ولم يكن فتح، حتى طلب عليا، فحضر وهو أرمد؛ فتفل في عينيه ودفع إليه الراية، وكان فتح خيبر على يديه". وأمثال هؤلاء الذين تخرجوا من مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم كثر.
نحن في هذا العصر نعلم علم اليقين أن شباب الأمة هو معقد الأمل، ومطمح الرجاء فمن واجبنا أن نؤدبه بآداب رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقد روي عن ابن مسعود في حديث صحيح قول الرسول صلى الله عليه وسلم "أدّبني ربي فأحسن تأديبي"، وقال عليه الصلاة والسلام "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق" رواه البخاري، وابن سعد وغيرهما عن أبي هريرة وهو حديث صحيح. وفي حديث الترمذي عن أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم "إنما أنا رحمة مهداة" حديث صحيح.
فلنتوكل على الله ونسلك طريق محمد صلى الله عليه وسلم مع الشباب والأطفال.