جاء الإسلام ليقر مبدأ السلام بين الشعوب والأمم, مقررا أنه هو الأصل والحرب هي الاستثناء, قال تعالي:(يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة)(البقرة:208).
وفي سبيل ذلك دعا إلي تجنب ويلات الحروب والنزاعات, وأبان عن كراهية النفس للقتال ابتداء وإن كان واجبا ودفاعا, فقال سبحانه:(كتب عليكم القتال وهو كره لكم)(البقرة:216), وقال أيضا:(وإذ يعدكم الله إحدي الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم)(الأنفال:7), ورغم ذلك فلم يتغاض عن وضع قوانين للحرب في حالة وقوعها, وجعل الحرب في المقام الأول دفاعية وليست هجومية, قال تعالي:(وقاتلوهم حتي لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا علي الظالمين)(البقرة:193).
وفي غمار الحروب يسقط القتلي والجرحي من الأطراف المتنازعة, كما يقع بعض المقاتلين في الأسر, وقد وضع الإسلام أسس التعامل مع كل حالة من هذه الحالات, وأهمها أن رسول الله صلي الله عليه وسلم كان إذا بعث أميرا علي جيش أوصاه ومن معه من المسلمين بقوله:' لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا شيخا'( الترمذي447/5). وقال يوم فتح مكة: ألا لا يقتل مدبر, ولا يجهز علي جريح, ومن أغلق بابه فهو آمن(ابن أبي شيبة498/6).ولذلك كان ديدن المسلمين في قتالهم أنهم لا يتبعون فارا هاربا من المعركة, ولا يقتلون أسيرا استسلم, بل لا يقطعون شجرا, ولا يردمون بئرا ولا يهدمون بيتا.
وقد حث الإسلام علي معاملة الأسير معاملة كريمة لا تهان فيها كرامته ولا تنتهك حرمته, دون اعتبار لاختلاف الدين أو كونه من الأعداء, وعد تلك المعاملة من صفات الأبرار, حيث قال الله تعالي فيهم:( ويطعمون الطعام علي حبه مسكينا ويتيما وأسيرا)(الإنسان:7), وأوصي رسول الله صلي الله عليه وسلم أصحابه بحسن معاملة الأسري فقال:' استوصوا بالأساري خيرا'(المعجم الكبير393/22)), وبهذا الأمر حول الإسلام غريزة الانتقام من العدو الأسير إلي أداة فضل ورحمة, فلم يقتصر علي النهي عن تعذيبه أو تجويعه, بل امتد إلي الحث علي الإحسان إليه وإكرامه ومساواته بالمسكين واليتيم, وبهذا تتحول أحد تبعات الحروب, رغم ضراوتها وقسوتها, إلي عبادة يرجو صاحبها رضا الله عز وجل ويصبح بها من الأبرار.
وفي الوقت الذي كانت الدول والممالك من حول دولة الإسلام تقتل الأسير أو تستعبده أو تهينه, وضع الإسلام القواعد والأسس التي يحمي بها الأسير ويصون كرامته وإنسانيته ويرفع الظلم عن المظلومين وينشر العدل والرحمة بين الناس, وينقل الإنسان ذ ذ ويرقي به إلي السلوك الإنساني القويم الذي لا فضل فيه لعربي علي أعجمي إلا بالتقوي, قال تعالي:(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)(الحجرات:13).
وقد قدم لنا رسول الله صلي الله عليه وسلم الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة في معاملة الأسري في المواطن كلها, ففي غزوة بدر أنكر رسول الله صلي الله عليه وسلم علي بعض الصحابة عندما ضربوا غلامين من قريشوقعا أسيرين, حيث قال لهم:إذا صدقاكم ضربتموهما, وإذا كذباكم تركتموهما( الروض الآنف60/3).
وبعد أن نصر الله عز وجل المسلمين في غزوة بدر وقع في الأسر سبعون أسيرا من قريش, عاملهم الرسول صلي الله عليه وسلم معاملة طيبة, وأمر أصحابه بحسن معاملتهم, يقول أبو عزيز بن عمير أخو مصعب وكان في أسري بدر: كنت مع رهط من الأنصار حين قفلوا, فكانوا إذا قدموا طعاما خصوني بالخبز وأكلوا التمر; لوصية رسول الله صلي الله عليه وسلم إياهم بنا, ما يقع في يد رجل منهم كسرة إلا نفحني بها; قال: فأستحي فأردها علي أحدهما, فيردها علي ما يمسها(الروض الآنف96/3).
كذلك حث الرسول صلي الله عليه وسلم الصحابة علي إكرام الأسري فقبل الفداء من بعض الأسري, ومن لم يستطع دفع الفدية, قبل منه أن يعلم عشرة من أبناء المسلمين الكتابة, وعفا عن بعضهم, تحقيقا لأمر الله تعالي في محكم التنزيل:(فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتي إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتي تضع الحرب أوزارها)(محمد:4).
ومن تطبيقات ذلك أيضا أن النبي صلي الله عليه وسلم أعطي أسيرا لأبي الهيثم بن التيهان وأوصاه به خيرا فقال له:إن رسول الله صلي الله عليه وسلم أوصاني بك خيرا, فأنت حر لوجه الله.(شعب الإيمان128/10).
وقد يكون مصير بعض الأسري القتل, وذلك لشدة جرمهم في حق الإسلام والمسلمين, كما فعل الرسول صلي الله عليه وسلم في حالة قتل عقبة بن أبي معيط, وطعيمة بن عدي, والنضر بن الحارث, ولم يكن سبب قتلهم أنهم أسري; بل لوجود أسباب أخري تبيح قتلهم, ولذلك فإن قتل الأسير لمجرد أسره مخالف لصريح ما ورد في القرآن الكريم وما ورد عن الرسول صلي الله عليه وسلم.
إن الإسلام بنصوصه القطعية في القرآن والسنة, وبتطبيقاته الفعلية والتقريرية من الرسول صلي الله عليه وسلم لتعطي العالم أجمع دروسا حضارية في معاملة الأسري, سبقت بها المعاهدات الدولية المنوطة بحماية حقوق الأسري بأربعة عشر قرنا, مؤكدة أن الإسلام جاء رحمة للعالمين ولنشر قيم التسامح إلي يوم الدين.
--------------------------------------------------------------------
أ.د علي جمعة مفتي الديار المصرية