لقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بسد فجوة الجوع ، ووصف المتقين بهذه الصفة فقال: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}(1)، وذم ربنا صنفًا من الناس يحتجون بالقدر كي لا ينفقوا في سبيل الله ويطعموا الفقراء، فقال في شأنهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}(2) وأمر سبحانه أهل مكة بعبادته، وامتن عليهم بأنه أطعمهم بعد جوع، فقال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}(3).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام»(4) وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإطعام الجائع على رأس خصال الخير، فقال صلى الله عليه وسلم: «أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني»(5).
والطعام من الضرورات الإنسانية الأساسية، والضرورة يعرفها الفقهاء المسلمون بأنها: ما لم يتناولها الإنسان هلك أو قارب على الهلاك، وأدون منها الحاجة، وهي إذا لم يتناولها الإنسان أصابته مشقة، ثم يذكرون بعد ذلك ثلاث مراتب وهي: المنفعة، والزينة، والفضول؛ فالمنفعة: تجري بها عادة الناس، وليس لها علاقة بضرورة الإنسان في بقائه حيًّا أو مشقته أثناء الحياة، والزينة أعلى من ذلك، أما الفضول: فهو بوابة الإسراف المنهي عنه، فهو في ذاته مباح، ولكن يمكن أن ينهى عنه إذا دخل في حد الإسراف.
وهذا التقسيم التفصيلي الذي نراه عند الفقهاء المسلمين لم أره عند علماء العلوم الاجتماعية والإنسانية؛ حيث يسمون الضرورة بالحاجة الحرجة، ويسمون الحاجة بكلمة الحاجة أيضًا، ويقصدون بالحاجة الحرجة: الطعام، وترى هذا في علوم الغذاء والتغذية، ويقصدون بالحاجة كل ما يحتاجه الإنسان من مسكن وكساء وغيرها، ولعل تقسيم الفقهاء يزيد من دراسة المشكلة الاقتصادية عند الاقتصاديين؛ حيث يعرفونها بأنها: كثرة الحاجات مع قلة وسائل الإشباع نسبيًّا، وعدم التفصيل بين الضرورة والحاجة بهذا الشأن ولد خلطًا في تصنيف الغرائز حيث سموها بالحاجة، وعاملوها وكأنها ضرورة مرة، وأنها غير ضرورية مرة أخرى.
ومفهوم الطعام عند المسلمين في تراثهم يتمثل في: القوت، والفاكهة، والإصلاح، والدواء؛ ويقصد بالقوت: ما يحتاج إليه الإنسان ليقوم جسمه من غير مرض، ومثلوا له بالبلح والعنب والحبوب كالقمح، والشعير، والفول، والذرة. ويقصد بالفاكهة: الخضروات والفواكه بمفهومها الزراعي في عصرنا هذا، والإصلاح ويقصد به: الملح والبهارات ونحوها، وهي تصلح الطعام وتجعله أكثر استساغة حتى يقبل عليه الإنسان. والدواء: ما يؤخذ للعلاج، والماء والسوائل تدخل في مفهوم الطعام أيضًا؛ لأنها تؤخذ عن طريق الفم الذي يقوم بالطعم، ولذلك فإنني أرى أن بنك الدواء ينبغي أن يكون جزءًا من المشروع، ولكن بعد استيفاء شروط التعامل مع الدواء حيث إن التعامل معه له شروط تفوق التعامل مع سائر الطعام.
والطعام وهو أحد الأساسيات الثلاثة للإنسان، وفتح بنك له هو أول خطوة في المشروع الأكبر الذي يشمل الكساء، ثم السكنى، والذي يقضي حينئذ على ظاهرة أولاد الشوارع التي ملأت العالم وبدأت تسري عندنا، والتي هي سبة في جبين البشرية؛ خاصة من دان بالإسلام "دين الرحمة والتكافل".
والطعام هو أساس حساب احتياجات الإنسان؛ حيث إنه يمثل 40% من الدخل غالبًا في أي مستوى من المستويات الثلاث وهي: مستوى الكفاف، ومستوى الكفاية، ومستوى الكفاءة، وهذه مستويات المعيشة الثلاث لها علاقة بتحديد مستحق الزكاة، فالزكاة تعطى لمن هو دون مستوى الكفاف حتى يصل إلى مستوى الكفاية، ويمكن تحويل هذا النظر في أرقام تختلف قطعًا باختلاف البلد، وباختلاف الأزمان، وباختلاف الأعراف السائرة بين الناس.
فمستوى الكفاف: هو ذلك القدر الذي يقوم به الإنسان بحاجاته الأساسية، والطعام هو البداية؛ لأنه على مستوى الضرورة، ويحسب ذلك طبقًا لعلم التغذية بحاجة الإنسان بالسعرات الحرارية، وبشكل يتكون فيه الطعام اليومي في صورة وجبات ثلاث أو أربع، ومن المجموعات الغذائية المختلفة من نشويات وبروتينات وسكريات وفيتامينات وأملاح ومعادن ونحوها من المجموعات التي تراعى عند تكوين الطعام حتى لا يصاب الإنسان بالأمراض.
فالبالغ من الرجال يحتاج نحو 3 آلاف سعر حراري يوميًّا، ومن النساء نحو ألفي سعر، والطفل يحتاج 1500 سعر في تفاصيل وجداول في علم التغذية، والسعر الحراري هو مقدار الطاقة اللازمة لرفع 1جم ماء مقطر من درجة حرارة 13.5ْ (درجة مئوية) إلى 14.5ْ (درجة مئوية)، ولكل نوع من أنواع الطعام قدر من السعرات الحرارية تحسب بواقع وحدة 100جم، تمد الجسم بهذه الاحتياجات.
ويمكن للوجبة الرخيصة أو المتوسطة أو الغالية أن تحدد تكلفة الطعام اليومي للفرد، وللأسرة النووية (وهي الأسرة التي تتكون من زوج وزوجة وطفل) فإذا زادت الأسرة في عددها فبحسابه.
وفي بعض البلدان تكون تكلفة السكن مرتفعة؛ بحيث إنها تحسب سنويًّا لحالها دون أن تدخل في هذه المعادلة.
أما حد الكفاية، فيضاف إلى ما سبق مسألة التعليم، ومسألة العلاج، ومسألة الأمن الاجتماعي، ومسألة الأنشطة من رياضة، وفنون وآداب.
أما حد الكفاءة فيضاف إلى ما سبق بناء ملكات والتدريب عليها؛ كإتقان اللغات والرياضة الترفيهية والمشاركة الاجتماعية والسياسية، ذلك ونحن نعطي من الزكاة من كان في حد الكفاف حتى نصل به إلى حد الكفاية، ونعطي أعلى حد الكفاية حتى يصل إلى حد الكفاءة من الصدقة؛ حيث إن الزكاة لا تجوز لغني، ولا لذي مِرَّةٍ سَوِيٍّ، أما الصدقة فتجوز للغني.
ولقد وضعت الأمم المتحدة وهيئات الغذاء والأدوية العالمية دراسات حول كل ذلك، أرجو أن تدخل في تدريس مناهج الزكاة عند المسلمين؛ لفهم كلام التراث الإسلامي بعمق، وحتى نرى كيف أن هذه الحضارة التي بنيت على ذلك الدين كانت حضارة إنسانية راقية، ونأمل أن تستمر على ذلك، وما ذلك على الله ببعيد.
الهوامش:
-----------------------
(1) الآية 8 من سورة الإنسان.
(2) الآية 47 من سورة يس.
(3) الآيتان 3، 4 من سورة قريش.
(4) أخرجه ابن ماجه في كتاب «الأطعمة» باب «إطعام الطعام» حديث (3251)، والدارمي في كتاب «الصلاة» باب «فضل صلاة الليل» حديث (1460)، وفي كتاب «الاستئذان» باب «في إفشاء السلام» حديث (2632)، والحاكم في «المستدرك» (3/ 14) حديث (4283) وصححه من حديث عبدالله بن سلام رضي الله عنه.
(5) أخرجه البخاري في كتاب «الأطعمة» باب «قول الله تعالى: {كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ }» حديث (5373)، وفي كتاب «المرضى» باب «وجوب عيادة المريض» حديث (5649) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
المصدر : كتاب سمات العصر ، لفضيلة مفتى الديار المصرية الدكتور على جمعة