عمل الإفتاء منصب شريف, تولاه رسول الله صلي الله عليه وسلم فيما تولي من مناصب كثيرة, كالقضاء, والحكم الأعلي, بالإضافة إلي الدعوة, والإمامة وغيرها.
مما ذكره الإمام القرافي في كتابه الماتع( الفروق), وفرق في كتابه, في فصل جعله لذلك, بين النبي مفتيا, والنبي قاضيا, والنبي داعية, والنبي رئيسا للدولة, والنبي قائدا للجيوش, والنبي إماما للصلاة, فقد اجتمعت فيه صلي الله عليه وسلم كل هذه المقامات, فالنبي صلي الله عليه وسلم هو الإنسان الكامل الأتم, الذي نفعنا الله به في الدنيا والآخرة, ثم جاء من بعده الصحابة الكرام رضي الله عنهم, وقد ورثوا علمه وحملوا شريعته, وأدوا تلك الأمانة, كل علي قدر طاقته.
واشتهر في الفتوي من الصحابة أناس, منهم من إذا ماجمعت فتاواه كانت في مجلد, ومنهم من إذا ماجمعت فتاواه كانت في جزء صغير, ومنهم من له الفتوي والفتويان فقط.
وعدد الذين تصدروا للفتوي من الصحابة الكرام كانوا نحو مائة وخمسين علي قول, مع أن الذين رأوه صلي الله عليه وسلم بأعينهم, وشاهدوه, وغزوا معه الغزوة والغزوتين, وعاشوا معه السنة والسنتين, قد وصلوا إلي نحو مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا, وعلي ذلك, فهذا المقام الرفيع الذي كان يتولاه الصحابة الكرام لايزيد عدد من تولاه منهم علي واحد بالمائة, وكل واحد منهم صحابي جليل, وفيهم يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم:( لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولانصيفه)( رواه البخاري في صحيحه1343/3) ومسلم1967/4 يعني أن الصحابي لو أنفق مثلا مقدار كيلوين أرزا أو قمحا, وأنت أنفقت في مقابله وزن أحد ذهبا, فإنك لاتبلغ نصف ما أنفقه الواحد منهم رضي الله عنهم, ومع هذه الجلالة فقد كان منصب الإفتاء فيهم أيضا منصبا محددا, لايقوم به الجميع, بل الواحد بعد الواحد ممن توفرت فيهم ملكات وعلوم زائدة علي مجرد الصحبة النبوية الكريمة.
وظل هذا المنصب موجودا في الأمة, وألف فيه كثير من العلماء في آداب المفتي والمستفتي وكيفية الفتوي, منهم الإمام الحافظ ابن الصلاح, والإمام النووي, وابن حمدان, وابن تيمية, وابن القيم, وكثير من العلماء, وفصلوا هذا القول تفصيلا.
وبقي هذا المنصب في بلادنا هذه, ينهض به الأئمة والعلماء الأكابر, حتي تولي الإفتاء فيها العلامة الشيخ المهدي العباسي وله مايسمي بالفتاوي المهدية, وهو كتاب مطبوع في نحو ثمانية مجلدات كبار, وقد تولي الإفتاء وهو في العشرين من عمره, إلا أنه كان محاطا بأمناء, يحررون له السؤال, وبعد الإجابة يضبطون له الفتوي, وكان عالما كبيرا, تم صار بعد ذلك شيخا للأزهر.
والناس عندما يسألون يريدون من المفتي أن يخبرهم ماالحكم في كتاب الله تعالي وفي سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم؟ وما الحكم في شريعة الإسلام كما يفهمه الائمة العظام؟ والائمة العظام من المجتهدين شاع منهم أربعة هم: أبو حنيفة, ومالك, والشافعي, وابن حنبل, ومذاهبهم هي مذاهب أهل السنة الأربعة, وبقيت أربعة أخري وهي: الإباضية, والجعفرية, والزيدية, والظاهرية, وكتبهم مازالت موجودة, وأتباعهم مازالوا موجودين ـ قلوا أو كثروا ـ إلي الآن, فالجعفرية أكثرهم, ثم الإباضية, ثم الزيدية, أما الظاهرية فهم أفراد في العالم, لكن كتاب( المحلي) لابن حزم ـ وهو أصل في مذهبهم موجود ـ وإليه يرجع في هذا المجال.
ولكن هناك أكثر من هؤلاء المجتهدين, حيث وصل المجتهدون إلي أكثر من تسعين مجتهدا لهم مذاهب, منهم: الليث بن سعد, ومنهم حماد بن سلمة, وحماد بن أبي سليمان, وابن جرير الطبري, والأوزاعي, وسفيان الثوري, وغيرهم كثيرون نجدهم مسطورين في كثير من الكتب: من أشهرها وأقربها كتاب:( ضحي الإسلام) لأحمد أمين.
ثم وسعت دائرة بحث المفتي إلي نطاق المذاهب الثمانية عند الحاجة إلي شيء من خارج المذاهب الأربعة تقتضيه مصلحة العصر وفق نظر الفقيه المؤهل, ثم الخروج إلي الفقه الوسيع في الأمة عن المجتهدين التسعين, ثم يأخذ من المصادر الكبري من الكتاب والسنة, مسترشدا بما عليه المجامع الفقهية الكبيرة العظيمة, كمجمع البحوث الإسلامية في الأزهر, ومجمع الفقه الإسلامي في جدة, وأمثال هذه المجامع المعتبرة, التي فيها علماء الشرع الشريف, وقليل جدا من المسائل هو الذي يجتهد فيه المفتي مباشرة, فيأخذ من صريح الكتاب والسنة, ويستخدم الأدلة والأدوات الأصولية, وهي مسائل قليلة جدا, ولكن ذلك وارد إذا ما كانت المسألة جديدة أو حديثة, وليس هناك رأي معتمد فيها استقرت عليه المجامع والجماعة العلمية في العالم.
فعندما يريد المفتي أن يقول شيئا فهو إنما يريد أن يحكي كلام أئمة الأمة, وفق قواعدهم, ثم بعد ذلك( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)[ الكهف:29] ثم بعد ذلك فمن شاء فليقبل, ومن شاء فليرفض, لأننا نعيش ونحيا في حرية, حيث علمنا الشرع الشريف أن ندع الخلق للخالق, فقال لنا:( (إن عليك إلا البلاغ)[ الشوري:48] وقال لنا:(( وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل)[ الأنعام:107]
وهو سبحانه لم يرسلنا لنقهر الناس, بل انه قال لرسوله ومصطفاه صلي الله عليه وسلم:(( لست عليهم بمصيطر)[ الغاشية:22] فالمبدأ هو: أن نقول كلمة الحق, وأن ننقل الشرع الشريف كما هو.
والسؤال الآن: أين هذا كله فيمن يتصدرون للإفتاء في عصرنا, ويحرصون علي الظهور في الإعلام بكل صوره, لا لشيء إلا حبا في الظهور ورغبة في التصدر, ولا يملكون إلا تدينا شكليا, أو فهما قاصرا وبضاعة مزجاة, لاتصلح فردا, ولاتقيم مجتمعا.
------------------------------------------------------------------------------
بقلم: د. علي جمعة