لم يشرع الإسلام شيئا إلا لحكمة بالغة وهدف نبيل, فما من عبادة أو شعيرة شرعت في الإسلام إلا وكان الهدف الأسمي منها هو التقرب إلي الله وزيادة درجة التقوي وتحقيق مصلحة الفرد والمجتمع.
وهكذا يجب أن تكون حياة المسلم كلها لله رب العالمين, قال تعالي:(قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) الأنعام:162-163.
ومن نفحات الله وفضله علي عباده أن جعل لهم مواسم يتقربون إليه فيها بعبادات متنوعة, ليزدادوا قربا وعطاء وأنسا به سبحانه, ومن تلك الأوقات المخصوصة بمزيد رحمة وإحسان العشر الأوائل من ذي الحجة التي أقسم الله تعالي بها:(والفجر وليال عشر)( الفجر:) وقال فيها رسول الله صلي الله عليه وسلم:'ما العمل في أيام أفضل منها في هذه.قالوا ولا الجهاد ؟ قال:ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء'(صحيح البخاري ولذا يستحب التقرب إلي الله في هذه الأيام المباركة بجميع الوسائل.
والأضحية من هذه الوسائل التي يتقرب بها المسلم إلي الله تعالي في أيام النحر بشرائط مخصوصة, والمقصود بالأضحية شكر الله تعالي علي نعمة الحياة إلي حلول الأيام الفاضلة من ذي الحجة وعلي التوفيق فيها للعمل الصالح.
وتشتمل الأضحية علي معان جليلة وحكم قيمة; منها: التشبه بالحجاج حين ينحرون هديهم في فريضة الحج,سواء علي وجه الوجوب للمتمتع والقارن أو علي الاستحباب للمفرد, قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:'ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلي الله من إهراق الدم إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها,وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفسا'(سنن الترمذي).
ومن التشبه بالحجاج أيضا في الأضحية أنه يسن لمن أراد الأضحية عدم قص الأظافر وحلق الشعر إلا بعد ذبح أضحيته, كما هو شأن الحجاج, وهو تشبه بهم في كونهم شعثا غبرا, فعن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال:'من أراد أن يضحي فلا يقلم أظفاره ولا يحلق شيئا من شعره في العشر الأول من ذي الحجة'(سنن الدارمي).
ومن التشبه بالحجاج أيضا في الأضحية التوسعة علي الفقراء والمساكين وإدخال السرور عليهم, كما قال تعالي:(فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير)(الحج:), ولذلك كان تقسيم الأضحية كما قال الإمام أحمد: نحن نذهب إلي حديث عبد الله: يأكل هو الثلث, ويطعم من أراد الثلث, ويتصدق بالثلث علي المساكين, وقال الشافعي: أحب ألا يتجاوز بالأكل والادخار الثلث, وأن يهدي الثلث, ويتصدق بالثلث.(تفسير ابن أبي حاتم) ومن هنا قال تعالي:(لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوي منكم)(الحج:), ففي الآية دلالة صريحة علي أن الأضحية لا تطلب لذاتها, ولكن للتوسعة علي الفقير وابتغاء التقوي ومحبة الخير لكل الناس, ويؤكد ذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها:'أنهم ذبحوا شاة فقال النبي صلي الله عليه وسلم:ما بقي منها؟ قالت:ما بقي منها إلا كتفها. قال:بقي كلها غير كتفها'(الترمذي).
ومن حكم مشروعية الأضحية تحقيق فضيلة التقوي, وذلك بالإذعان والطاعة والانقياد لأمر الله تعالي حيث قال:(لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوي منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله علي ما هداكم وبشر المحسنين)(الحج:37), وتتحقق التقوي كذلك بحسن اتباع رسول الله صلي الله عليه وسلم في هديه وبيانه لشروط الأضحية التي تدور حول سلامتها من العيوب تقوي للمضحي ونفعا للفقير, قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:(أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء بين عورها, والمريضة بين مرضها, والعرجاء بين ظلعها,أي عرجها, والكسير التي لا تنقي, أي الهزيلة)( سنن أبي داود) ذلك أن الله طيب لا يقبل إلا طيبا, قال تعالي:( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم)( البقرة:), والإنفاق لا يكون إلا من أطيب ما يملكه الإنسان.
وفي الأضحية كذلك نوع إشارة إلي القربان الأول في حياة البشرية حيث قدم كل من ولدي آدم قربانا,فقدم هابيل كبشا من أجود الكباش التي يملكها,في حين قدم قابيل بعضا من أردأ ثمار الأرض التي يملكها, فتقبل الله قربان هابيل ورد قربان قابيل, قال تعالي:(إنما يتقبل الله من المتقين)( المائدة:), فقبول العمل مرتبط بالتقوي,وعلامة ذلك البذل والعطاء مما يحبه الإنسان, قال تعالي:(لن تنالوا البر حتي تنفقوا مما تحبون)(آل عمران:).
وفي الذبح والأضحية تذكير بسيدنا إبراهيم عليه السلام وإحياء لسنته, إذ ابتلي فصبر, وقدم أمر الله سبحانه ومحبته علي فلذة كبده وولده إسماعيل,حين امتثل لأمر الله وهم بذبحه, ففداه الله عز وجل:(وفديناه بذبح عظيم)(الصافات:).
لكل هذه المعاني ولغيرها كانت الأضحية ذات شأن ومشروعية واستحباب من قبل الشرع الشريف; إذ فيها دلالة علي حسن العلاقة بين العبد وربه,وبين الإنسان وأخيه الإنسان,ولذلك قال صلي الله عليه وسلم:'من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا'(مسند أحمد).
ووقت الأضحية يبدأ من بعد صلاة العيد لقول الله تعالي:(فصل لربك وانحر)( الكوثر:2), وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم:'من ذبح بعد الصلاة تم نسكه, وأصاب سنة المسلمين'(البخاري ومسلم), وينتهي الوقت بغروب شمس ثالث أيام التشريق, وفي ذلك توسعة للزمان حتي تتحقق التوسعة علي الفقراء طول أيام العيد.
====================================================
بقلم: د. علي جمعة