٣- إخاء و سلام: و في هذه الرحلة المباركة تأكيد على وحدة المسلمين و ترابطهم باجتماعهم في مكان واحد و زمان واحد ، متوجهين إلى رب واحد و قبلة واحدة ، وقد صار البيت الحرام وطنًا أكبر للجميع ومثابة للناس و أمنًا ، و صارت مكة هي أم القرى كما سماها الله تعالى ، فلا التفات هناك إلى اختلاف الأعراق و البلدان واللغات والألوان والثقافات، ولا فرق بين غني وفقير ، فالكل سواء في الفقر والحاجة إلى الله سبحانه، و يظل هذا المشهد الحضاري مصداقًا لقول الحق تبارك وتعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) [الأنبياء: ٩٢] ، وهناك لا يعم السلام على الإنسان فحسب بل يتسع ليشمل الحيوان والنبات والجماد، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "»إِن الله حَرمَ مَكةَ فَلَمْ تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار لا يختلى خلالها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها إلا لمعروف ، وقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر لصاغتنا وقبورنا ، فقال: إلا الإذخر" (١).
٤- إعمار للأرض: إن في حث الشريعة على الحج والعمرة و ترغيبها فيهما لدعوةً صريحةً إلى ابتغاء الرزق الطيب والاكتساب، وذلك بالمشاركة في العمل و الإنتاج والتنمية الاقتصادية وخدمة المجتمعات الإنسانية، فمن المعلوم أن تكاليف هذه الرحلة ليست بالشئ القليل ، و كما يحتاج المسلم إلى زاد يكفيه في سفره للحج يحتاج أيضًا لتوفير زاد آخر يكفي أهله وعياله حتى يعود، فأولئك الذين أرادوا صلاح آخرتهم وطمعوا فيما يترتب على الحج والعمرة من ثواب عظيم تدعوهم شريعة الإسلام أولا إلى العمل الطيب وإعمار البلاد والسعي في الأرض بما ينفع الناس، وليس هذا فحسب بل و تحثهم على الإخلاص و الإتقان و الإبداع في العمل، بهذا السبيل يتمكن المسلم من تحصيل نفقات الحج والعمرة، فيصلح في دنياه من حيث يطلب صلاح آخرته، بالإضافة إلى ما ينتفع به الفقراء والمساكين من الأضحيات التي تقدم لهم في نهاية موسم الحج ، و إلى هذه المعاني يشير قول الله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ) [الحج: ٢٨]
__________________
(١) رواه البخاري (١٣٤٩ ، ١٨٣٣ ، ٢٠٩٠) ومسلم (٣٣٦٨).