وقد دل حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا على أنه أفضل الصلاة بعد المكتوبة، وهل هو أفضل من السنن الراتبة فيه خلاف سبق ذكره، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: فضل صلاة الليل على صلاة النهار كفضل صدقة السر على صدقة العلانية. وخرجه الطبراني عنه مرفوعا، والمحفوظ وقَفُه، وقال عمرو بن العاص: "ركعة بالليل خير من عشر بالنهار". خرجه ابن أبي الدنيا، وإنما فضلت صلاة الليل على صلاة النهار؛ لأنها أبلغ في الإسرار وأقرب إلى الإخلاص.
كان السلف يجتهدون على إخفاء تهجدهم، قال الحسن: كان الرجل يكون عنده زواره، فيقوم من الليل يصلي، لا يعلم به زواره. وكانوا يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوت، وكان الرجل ينام مع امرأته على وسادة فيبكي طول ليلته، وهي لا تشعر. وكان محمد بن واسع يصلي في طريق الحج طول ليله، ويأمر حاديه أن يرفع صوته ليشغل الناس عنه، وكان بعضهم يقوم في وسط الليل ولا يُدْرَى به، فإذا كان وقت طلوع الفجر رفع صوته بالقرآن يوهم أنه قام تلك الساعة.
ولأن صلاة الليل أشق على النفوس فإن الليل محل النوم والراحة من التعب بالنهار، فترك النوم مع ميل النفس إليه مجاهدة
عظيمة، قال بعضهم: أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس، ولأن القراءة في صلاة الليل أقرب إلى التدبر، فإنه تنقطع الشواغل بالليل، ويحضر القلب، ويتواطأ هو واللسان على الفهم، كما قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 6] ولهذا المعنى أُمِر بترتيل القرآن في قيام الليل ترتيلا، ولهذا كانت صلاة الليل منهاة عن الإثم كما يأتي في حديث خرجه الترمذي، وفي المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: إن فلانا يصلي من الليل فإذا أصبح سرق؟ فقال: ((سينهاه ما تقولا))، ولأن وقت التهجد من الليل أفضل أوقات التطوع بالصلاة، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو وقت فتح أبواب السماء واستجابة الدعاء واستعراض حوائج السائلين.
وقد مدح الله تعالى المستيقظين بالليل لذكره ودعائه واستغفاره ومناجاته فقال الله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَا * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَا} [السجدة: 16، 17]
وقال الله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17]
وقال الله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذريات: 17، 18]
وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64]
وقال الله تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]
وقال تعالى: { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113]
وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الاسراء: 79]
وقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الانسان: 26]
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 1، 4]
قالت عائشة رضي الله عنها لرجل: "لا تدع قيام الليل فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه، وكان إذا مرض -أو قالت: كسل- صلى قاعدا" وفي رواية أخرى عنها قالت: "بلغني عن قوم يقولون: إن أدينا الفرائض لم نبالِ أن لا نزداد، ولعمري لا يسألهم الله إلا عما افترض عليهم، ولكنهم قوم يخطئون بالليل والنهار، وما أنتم إلا من نبيكم وما نبيكم إلا منكم، والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام الليل"، ونزعت كل آية فيها قيام الليل، فأشارت عائشة رضي الله عنها إلى أن قيام الليل فيه فائدتان عظيمتان: الاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتأسي به، وقد قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
وتكفير الذنوب والخطايا؛ فإن بني آدم يخطئون بالليل والنهار، فيحتاجون إلى الاستكثار من مكفرات الخطايا، وقيام الليل من أعظم المكفرات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: ((قيام العبد في جوف الليل يكفر الخطيئة)) ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] الآية. خرجه الإمام أحمد وغيره.
وقد روي أن المتهجدين يدخلون الجنة بغير حساب، وروي عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء منادٍ ينادي بصوت يسمع الخلائق، سيعلم الخلائق اليوم من أولى بالكرم، ثم يرجع فينادي: أين الذين كانوا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله؟ فيقومون وهم قليل، ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء، فيقومون وهم قليل، ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع، فيقومون وهم قليل، ثم يحاسب سائر الناس)) خرجه ابن أبي الدنيا وغيره، ويروى عن شهر بن حوشب عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله، ويروى نحوه أيضا من حديث أبي إسحاق عن عبد الله بن عطاء عن قبة بن عامر مرفوعا وموقوفا، ويروى نحوه أيضا عن عبادة بن الصامت وربيعة الجرشي والحسن وكعب من قولهم.
قال بعض السلف: قيام الليل يُهَوِّن طول القيام يوم القيامة، وإذا كان أهله يسبقون إلى الجنة بغير حساب فقد استراح أهله من طول الموقف للحساب.
وفي حديث أبي أمامة وبلال المرفوع: ((عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قربة إلى الله تعالى، وتكفير للسيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد)) خرجه الترمذي. ففي هذا الحديث أن قيام الليل يوجب صحة الجسد، ويطرد عنه الداء، وكذلك صيام النهار، ففي الطبراني من حديث أبي هريرة مرفوعا: (([color=green]صوموا تصحوا)) وكما أن قيام الليل يكفر السيئات، فهو يرفع الدرجات، وقد ذكرنا أن أهله من السابقين إلى الجنة بغير حساب.
وفي حديث المنام المشهور الذي خرجه الإمام أحمد والترمذي: (([color=green]إن الملأ الأعلى يختصمون في الدرجات والكفارات)) وفيه: ((أن الدرجات إطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام)). وفي المسند والترمذي وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه: ((إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، وإنها لأهل هذه الخصال الثلاثة)) وفي حديث عبد الله بن سلام المشهور المخرج في السنن أنه أول ما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند قدومه المدينة: ((يا أيها الناس، اطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام)).
ومن فضائل التهجد: أن الله تعالى يحب أهله، ويباهي بهم الملائكة، ويستجيب دعاءهم. روى الطبراني وغيره من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم، فذكر منهم الذي له امرأة حسناء، وفراش حسن، فيقوم من الليل فيقول الله تعالى: يذر شهوته فيذكرني ولو شاء رقد، والذي إذا كان في سفر وكان معه ركب فسهروا ثم هجعوا فقام من السحر في سراء وضراء)) وخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة يحبهم الله فذكر منهم: وقوم ساروا ليلهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به فوضعوا رؤوسهم، فقام يتملقني ويتلو آياتي)) وصححه الترمذي.
وفي المسند عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عجب ربنا من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين أهله وحبه إلى صلاته، فيقول ربنا تبارك وتعالى: يا ملائكتي انظروا إلى عبدي، ثار من فراشه ووطائه من بين حبه وأهله إلى صلاته، رغبةً فيما عندي، وشفقةً مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله عز وجل، وانهزم أصحابه وعلم ما عليه في الانهزام، وماله في الرجوع فرجع حتى أُهْرِيق دمُه فيقول الله عز وجل لملائكته: انظروا إلى عبدي، رجع رجاء فيما عندي، وشفقةً مما عندي حتى أهريق دمه" رواه أحمد، وذكر بقية الحديث، وقوله: ((ثار)) فيه إشارة إلى قيامه بنشاط وعزم.
ويروى من حديث عطية عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يضحك إلى ثلاثة نفر: رجل قام من جوف الليل فأحسن الطهور فصلى، ورجل نام وهو ساجد، ورجل في كتيبة منهزمة فهو على فرس جواد، لو شاء أن يذهب لذهب".
وخرجه ابن ماجه من رواية مجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله ليضحك إلى ثلاثة: الصف في الصلاة، والرجل يصلي في جوف الليل، والرجل يقاتل -أراه قال- خلف الكتيبة)) ورُوِّينَا من حديث أبان عن أنس عن ربيعة بن وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث مواطن لا ترد فيها دعوة رجل يكون في برية حيث لا يراه أحد فيقوم فيصلي، فيقول الله لملائكته: أرى عبدي هذا يعلم أن له ربا يغفر الذنب، فانظروا ما يطلب؟ فتقول الملائكة: إي رب رضاك ومغفرتك، فيقول: اشهدوا أني قد غفرت له ورضيت عنه، ورجل يقوم من الليل فيقول الله عز وجل: أليس قد جعلت الليل سكنا والنوم سباتا، فقام عبدي هذا يصلي يعلم أن له ربا يغفر الذنوب، فيقول الله لملائكته: انظروا ما يطلب عبدي هذا؟ فتقول الملائكة: يا رب رضاك ومغفرتك فيقول: اشهدوا أني قد غفرت له)) وذكر الثالث: الذي يكون في فئة فيفر أصحابه ويثبت هو، وهو مذكور أيضا في كل الأحاديث المتقدمة.
وفي المسند وصحيح ابن حبان عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رجلان من أمتي يقوم أحدهما من الليل يعالج نفسه إلى الطَّهُور وعليه عُقَد فيتوضأ، فإذا وَضَّأ يديه انحلت عقدة، وإذا وضأ وجهه انحلت عقدة، وإذا مسح رأسه انحلت عقدة، وإذا وضأ رجليه انحلت عقدة، فيقول الرب عز وجل للذين وراء الحجاب: انظروا إلى عبدي هذا، يعالج نفسه يسألني، ما سألني عبدي هذا فهو له)) وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نِعْم الرجل عبد الله -يعني ابن عمر- لو كان يصلي من الليل)) فكان عبد الله لا ينام بعد ذلك من الليل إلا قليلا.
كان أبو ذر رضي الله عنه يقول للناس: "أرأيتم لو أن أحدكم أراد سفرا أليس يتخذ من الزاد ما يصلحه ويُبَلِّغه؟ قالوا: بلى، قال: فسفر طريق القيامة أبعد، فخذوا له ما يصلحكم، حجوا حجة لعظائم الأمور، صوموا يوما شديدًا حره لحر يوم النشور، صلُّوا ركعتين في ظلمة الليل لوحشة القبور، تصدقوا بصدقة لشر يوم عسير". أين رجال الليل أين الحسن وسفيان وفضيل:
يا رجال الليل جدوا**رب داع لا يرد
ما يقوم الليل إلا **من له عزم وجد
ليس شيء كصلا ة الليل للقبر يعد
صلى كثير من السلف صلاة الصبح بوضوء العشاء عشرين سنة، ومنهم من صلى كذلك أربعين سنة، قال بعضهم: منذ أربعين سنة ما أحزنني إلا طلوع الفجر، قال ثابت: كابدت قيام الليل عشرين سنة، وتنعمت به عشرين سنة أخرى.
أفضل قيام الليل وسطه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أفضل القيام قيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه وينام سدسه)) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الصارخ يقوم للصلاة والصارخ: الديك وهو يصيح وسط الليل. وخرَّج النسائي عن أبي ذر قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الليل خير؟ قال: ((جوفه)) وخرَّج الإمام أحمد عن أبي ذر قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي قيام الليل أفضل؟ قال: ((جوف الليل الغابر، أو نصف الليل وقليل فاعله))
وخرج ابن أبي الدنيا من حديث أبي أمامة أن رجلا قال: يا رسول الله أي الليل أفضل؟ قال: ((جوف الليل الأوسط)) قال: أي الدعاء أسمع؟ قال: ((دبر المكتوبات)). وخرَّجه الترمذي والنسائي ولفظهما: أنه سأله: أيّ الدعاء أسمع؟ قال: ((جوف الليل الأخير، ودبر الصلوات المكتوبات))
وخرَّج الترمذي من حديث عمرو بن عبسة سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن)).
ويروى أن داود عليه السلام قال: "يا رب أي وقت أقوم لك؟ قال: لا تقم أول الليل ولا آخره، ولكن قم وسط الليل حتى تخلو بي وأخلو بك، وارفع إلي حوائجك". وفي الأثر المشهور: "كذب من ادعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني، أليس كل محب يحب خلوة حبيبه، فها أنا ذا مطلع على أحبابي، إذا جنهم الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم فخاطبوني على المشاهدة، وكلموني على حضوري، غدا أقر أعين أحبابي في جناني".
الليل لي ولأحبابي أحادثهم**قد اصطفيتهم كي يسمعوا ويعوا
لهم قلوب بأسراري بها ملئت**على ودادي وإرشادي لهم طبعوا
سروا فما وهنوا عجزا ولا ضعفوا **وواصلوا حبل تقريبي فما انقطعوا
ما عند المحبين ألذ من أوقات الخلوة بمناجاة محبوبهم، هو شفاء قلوبهم ونهاية مطلوبهم.
كتمت اسم الحبيب من العباد**ورددت الصبابة في فؤادي
فيا شوقا إلى بلد خليٍّ**لعلي باسم من أهوى أنادي
كان داود الطائي يقول في الليل: همك عطَّل علي الهموم، وحالف بيني وبين السهاد، وشوقي إلى النظر إليك أوثق مني اللذات، وحال بيني وبين الشهوات. وكان عتبة الغلام يقول في مناجاته بالليل: إن تعذبني فإني لك محب، وإن ترحمني فإني لك محب.
لو انك أبصرت أهل الهوى**إذا غارت الأنجم الطلع
فهذا ينوح على ذنبه**وهذا يصلي وذا يركع
من لم يشاركهم في هواهم وذوق حلاوة نجواهم لم يدر ما الذي أبكاهم، من لم يشاهد جمال يوسف لم يدر ما الذي آلم قلب يعقوب.
من لم يبت والحب حشو فؤاده ** لم يدر كيف تفتت الأكباد
كان أبو سليمان يقول: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا.
وسط الليل للمحبين للخلوة بمناجاة حبيبهم، والسحر للمذنبين للاستغفار من ذنوبهم؛ فوسط الليل خاص لخلوة الخواص، والسحر عام لرفع قصص الجميع، وبروز التواقيع لأهلها بقضاء الحوائج، فمن عجز عن مسابقة المحبين في ميدان مضمارهم فلا يعجز عن مشاركة المذنبين في استغفارهم واعتذارهم.
صحائف التائبين خدودهم ومدادهم دموعهم، قال بعضهم: إذا بكى الخائفون فقد كاتبوا الله بدموعهم. رسائل الأسحار تحمل، ولا يدري بها الفلك، وأجوبتها ترد إلى الأسرار ولا يعلم بها الملَك.
صحائفنا إشارتنا**وأكثر رسلنا الحرق
لأن الكتب قد تقرأ**بغير الدمع لا تثق
لا تزال القصص تستعرض، وتوقع بقضاء حوائج أهلها إلى أن يطلع الفجر، ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داعٍ فأجيب دعوته؟ إلى أن ينفجر الفجر. فلذلك كانوا يفضلون صلاة آخر الليل على أوله.
نحن الذين إذا أتانا سائل**نوليه إحسانا وحسن تكرم
ونقول في الأسحار هل من تائب**مستغفرٍ لينال خير المغنم
الغنيمة تقسم على كل من حضر الوقعة فيعطى منها الرجَّالة والأجراء، والغلمان مع الأمراء، والأبطال والشجعان والفرسان، فما يطلع فجر الأجر إلا وقد حاز القوم الغنيمة، وفازوا بالفخر وحمدوا عند الصباح السرى، وما عند أهل الغفلة والنوم خبر مما جرى.
كان بعض الصالحين يقوم الليل فإذا كان السحر نادى بأعلى صوته: يا أيها الركب المعرسون، أَكُلَّ هذا الليل ترقدون؟ ألا تقومون فترحلون؟ فإذا سمع الناس صوته وثبوا من فرشهم، فيُسْمَع من هنا باكٍ، ومن هنا داعٍ، ومن هنا تالٍ، ومن هنا متوضئٍ، فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته: عند الصباح يحمد القوم السرى.
يا نفس قومي فقد نام الورى**إن تصنعي الخير فذو العرش يرى
وأنت يا عين دعي عنك الكرى**عند الصباح يحمد القوم السرى
يا قوَّام الليل اشفعوا في النوَّام، يا أحياء القلوب ترحموا على الأموات.
قيل لابن مسعود رضي الله عنه: ما نستطيع قيام الليل؟ قال: أقعدتكم ذنوبكم. وقيل للحسن: قد أعجزنا قيام الليل؟ قال: قيدتكم خطاياكم. وقال الفضيل بن عياض: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم مكبل، كبلتك خطيئتك. قال الحسن: إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل.
قال بعض السلف: أذنبتُ ذنبًا فحرمت به قيام الليل ستة أشهر.
ما يؤهل الملوك للخلوة بهم إلا من أخلص في ودهم ومعاملتهم، فأما من كان من أهل المخالفة فلا يؤهلونه.
في بعض الآثار: إن جبريل عليه السلام ينادي كل ليلة أقم فلانا وأنم فلانا. قام بعض الصالحين في ليلة باردة وعليه ثياب رثة، فضربه البرد فبكى فهتف به هاتف أقمناك وأنمناهم، ثم تبكي علينا.
يا حسنهم والليل قد جنهم**ونورهم يفوق نور الأنجم
ترنموا بالذكر في ليلهم**فعيشهم قد طاب في الترنم
قلوبهم للذكر قد تفرغت**دموعهم كلؤلؤ منظم
أسحارهم بهم لهم قد أشرقت**وخلع الغفران خير القسم
الليل منهل يرده أهل الإرادة كلهم، ويختلفون فيما يردون ويريدون {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60]. فالمحب يتنعم بمناجاة محبوبه، والخائف يتضرع لطلب العفو ويبكي على ذنوبه، والراجي يلح في سؤال مطلوبه، والغافل المسكين أحسن الله عزاءه في حرمانه وفوات نصيبه، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: ((لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل)).
مرضت رابعة مرة فصارت تصلي وردها بالنهار، فعوفيت وقد ألفت ذلك، وانقطع عنها قيام الليل، فرأت ذات ليلة في نومها كأنها أدخلت إلى روضة خضراء عظيمة، وفتح لها فيها باب دار فسطع منها نور حتى كاد يخطف بصرها، فخرج منها وُصَفَاء كأن وجوههم اللؤلؤ، بأيديهم مجامر، فقالت لهم امرأة كانت مع رابعة: أين تريدون؟ قالوا: نريد فلانا قتل شهيدا في البحر فنجمره، فقالت لهم: أفلا تجمرون هذه المرأة -تعني رابعة- فنظروا إليها وقالوا: قد كان لها حظ في ذلك فتركته، فالتفتت تلك المرأة إلى رابعة وأنشدت:
صلاتك نور والعباد رقود ** ونومك ضد للصلاة عنيد
وكان بعض العلماء يقوم السحر، فنام عن ذلك ليالي فرأى في منامه رجلين وقفا عليه، وقال أحدهما للآخر: هذا كان من المستغفرين بالأسحار فترك ذلك.
يا من كان له قلب فانقلب، يا من كان له وقت مع الله فذهب، قيام السحر يستوحش لك، صيام النهار يسائل عنك، الوصال تعاتبك على الهجر.
تغيرتمو عنا بصحبة غيرنا**وأظهرتم الهجران ما هكذا كنا
وأقسمتمو أن لا تحولوا عن الهوى**فحلتم عن العهد القديم وما حلنا
ليالي كنا نستقي من وصالكم**وقلبي إلى تلك الليالي قد حنا
قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن فلانا نام حتى أصبح؟ فقال: ((بال الشيطان في أذنه)).
كان سري يقول: رأيت الفوائد ترد في ظلمة الليل، ماذا فات من فاته خير الليل، لقد حصل أهل الغفلة والنوم على الحرمان والويل.
كان بعض السلف يقوم الليل، فنام ليلة فأتاه آتٍ في منامه فقال له: قم فصل، ثم قال له: أما علمت أن مفاتح الجنة مع أصحاب الليل، هم خزانها، هم خزانها. وكان آخر يقوم الليل فنام ليلة فأتاه آتٍ في منامه فقال: ما لك قصرت في الخطبة، أما علمت أن المتهجد إذا قام إلى تهجده قالت الملائكة: قام الخاطب إلى خطبته.
ورأى بعضهم حوراء في نومه فقال لها: زوجيني نفسك، قالت: اخطبني إلى ربي وأمهرني، قال: ما مهرك؟ قالت: طول التهجد.
نام ليلة أبو سليمان فأيقظته حوراء، وقالت: يا أبا سليمان، تنام وأنا أُرَبَّى لك في الخدور من خمسمائة عام؟
واشترى بعضهم من الله تعالى حوراء بصداق ثلاثين ختمة، فنام ليلة قبل أن يكمل الثلاثين فرآها في منامه تقول له:
أتخطب مثلي وعني تنام**ونوم المحبين عني حرام
لأنا خلقنا لكل امرئ**كثير الصلاة براه الصيام
كان النبي صلى الله عليه وسلم يطرق باب فاطمة وعلي ويقول: ((ألا تصليان)) وفي الحديث: ((إذا استيقظ الرجل وأيقظ أهله فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات)).
كانت امرأة حبيب توقظه بالليل وتقول: ذهب الليل وبين أيدينا طريق بعيد، وزادنا قليل وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا ونحن قد بقينا.
يا راقد الليل كم ترقد**قم يا حبيبي قد دنا الموعد
وخذ من الليل وأوقاته** وردا إذا ما هجع الرقد
من نام حتى ينقضي ليله**لم يبلغ المنزل أو يجهد
قل لأولي الألباب أهل التقى**قنطرة العرض لكم موعد.
--------------------------------
من كتاب لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف للحافظ ابن رجب الحنبلي.