خرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل)) الكلام على هذا الحديث في فصلين:
1- في أفضل التطوع بالصيام.
2- وأفضل التطوع بالقيام.
************************
الفصل الأول: في فضل التطوع بالصيام
************************
وهذا الحديث صريح في أن أفضل ما تُطُوِّع به من الصيام بعد رمضان صوم شهر الله المحرم وقد يحتمل أن يراد أنه أفضل شهر تُطُوِّع بصيامه كاملا بعد رمضان؛ فأما بعض التطوع ببعض شهر فقد يكون أفضل من بعض أيامه كصيام يوم عرفة أو عشر ذي الحجة أو ستة أيام من شوال ونحو ذلك، ويشهد لهذا ما خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث علي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أخبرني بشهر أصومه بعد شهر رمضان؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن كنت صائما شهرا بعد رمضان فصم المحرم فإنه شهر الله، وفيه يوم تاب الله فيه على قوم، ويتوب على آخرين)) وفي إسناده مقال.
ولكن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم شهر شعبان، ولم ينقل عنه أنه كان يصوم المحرم إنما كان يصوم عاشوراء وقوله في آخر سنة: ((لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع)) يدل على أنه كان لا يصوم التاسع قبل ذلك، وقد أجاب الناس عن هذا السؤال بأجوبة فيها ضعف، والذي ظهر لي والله أعلم أن التطوع بالصيام نوعان:
أحدهما: التطوع المطلق بالصوم، فهذا أفضله المحرم كما أن أفضل التطوع المطلق بالصلاة قيام الليل.
والثاني: ما صيامه تبع لصيام رمضان قبله وبعده، فهذا ليس من التطوع المطلق بل صيامه تبع لصيام رمضان وهو ملتحق بصيام رمضان، ولهذا قيل: إن صيام ستة أيام من شهر شوال يلتحق بصيام رمضان، ويُكْتَب بذلك لمن صامها مع رمضان صيام الدهر فرضا وقد روي أن أسامة بن زيد كان يصوم الأشهر الحرم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بصيام شوال فترك الأشهر الحرم وصام شوالا وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
فهذا النوع من الصيام يلتحق برمضان، وصيامه أفضل التطوع مطلقا؛ فأما التطوع المطلق فأفضله صيام الأشهر الحرم، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر رجلا أن يصوم الأشهر الحرم، وسنذكره في موضع آخر إن شاء الله تعالى، وأفضل صيام الأشهر الحرم صيام شهر الله المحرم، ويشهد لهذا أنه صلى الله عليه وسلم قال في هذا الحديث: ((وأفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل)) ومراده بعد المكتوبة: ولواحقها من سننها الرواتب فإن الرواتب قبل الفرائض وبعدها أفضل من قيام الليل عند جمهور العلماء؛ لالتحاقها بالفرائض وإنما خالف في ذلك بعض الشافعية، فكذلك الصيام قبل رمضان وبعده ملتحق برمضان، وصيامه أفضل من صيام الأشهر الحرم، وأفضل التطوع المطلق بالصيام صيام المحرم.
وقد اختلف العلماء في أي الأشهر الحرم أفضل، فقال الحسن وغيره: أفضلها شهر الله المحرم، ورجحه طائفة من المتأخرين، وروى وهب بن جرير عن قرة بن خالد عن الحسن قال: إن الله افتتح السنة بشهر حرام وختمها بشهر حرام، فليس شهر في السنة بعد شهر رمضان أعظم عند الله من المحرم، وكان يسمى شهر الله الأصم من شدة تحريمه، وقد روي عنه مرفوعا ومرسلا قال آدم بن أبي إياس: حدثنا أبو الهلال الراسي عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصلاة بعد المكتوبة في جوف الليل الأوسط، وأفضل الشهور بعد شهر رمضان المحرم، وهو شهر الله الأصم)).
وخرج النسائي من حديث أبي ذر قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الليل خير، وأي الأشهر أفضل؟ فقال: ((خير الليل جوفه، وأفضل الأشهر شهر الله الذي تدعونه المحرم)) وإطلاقه في هذا الحديث: ((أفضل الأشهر)) محمول على ما بعد رمضان كما في رواية الحسن المرسلة، وقال سعيد بن جبير وغيره: أفضل الأشهر الحرم ذو القعدة أو ذو الحجة، بل قد قيل: إنه أفضل الأشهر مطلقا، وسنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.
وزعم بعض الشافعية أن أفضل الأشهر الحرم رجب وهو قول مردود، وأفضل شهر الله المحرم عشره الأول، وقد زعم يمان بن رآب أنه العشر الذي أقسم الله به في كتابه، ولكن الصحيح أن العشر المقسَم به عشر ذي الحجة كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقال أبو عثمان النهدي: "كانوا يعظمون ثلاث عشرات: العَشر الأخير، من رمضان، والعشر الأُوَل من ذي الحجة، والعشر الأُوَل من محرم"، وقد وقع هذا في بعض نسخ كتاب فضائل العشر لابن أبي الدنيا عن أبي عثمان عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعظم هذه العشرات الثلاث، وليس ذلك بمحفوظ، وقد قيل: إنه العشر الذي أتم الله به ميقات موسى عليه السلام أربعين ليلة، وإن التكلم وقع في عاشره.
وروي عن وهب بن منبه قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن مر قومك أن يتقربوا إلي في أول عشر المحرم، فإذا كان يوم العاشر فليخرجوا إلي أغفر لهم.
وعن قتادة أن الفجر الذي أقسم الله به في أول سورة الفجر هو فجر أول يوم من المحرم، تنفجر منه السنة، ولما كانت الأشهر الحرم أفضل الأشهر بعد رمضان أو مطلقا، وكان صيامها كلها مندوبًا إليه كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بعضها ختام السنة الهلالية، وبعضها مفتاحا لها، فمن صام شهر ذي الحجة سوى الأيام المحرم صيامها منه، وصام المحرم فقد ختم السنة بالطاعة، وافتتحها بالطاعة، فيرجى أن تكتب له سنته كلها طاعةً، فإن من كان أول عمله طاعة وآخره طاعة فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العملين.
وفي حديث مرفوع: ((ما من حافظين يرفعان إلى الله صحيفة فيرى في أولها وفي آخرها خيرا إلا قال الله لملائكته أشهدكم أني غفرت لعبدي ما بين طرفيها)) خرجه الطبراني وغيره، وهو موجود في بعض نسخ كتاب الترمذي، وفي حديث آخر مرفوع: ((ابن آدم اذكرني من أول النهار ساعة، ومن آخر النهار ساعة أغفر لك ما بين ذلك، إلا الكبائر أو تتوب منها)) وقال ابن المبارك: "من ختم نهاره بذكر الله كتب نهاره كله ذكرا" يشير إلى أن الأعمال بالخواتيم، فإذا كان البداءة والختام ذكرًا فهو أولى أن يكون حكم الذكر شاملا، للجميع ويتعين افتتاح العام بتوبة نصوح تمحو ما سلف من الذنوب السالفة في الأيام الخالية.
قطعت شهور العام لهوا وغفلةً** ولم تحترم فيما أتيت المحرما
فلا رجبا وافيت فيه بحقه**ولا صمت شهر الصوم صوما متمما
ولا في ليالي عشر ذي الحجة الذي**مضى كنت قواما ولا كنت محرما
فهل لك أن تمحو الذنوب بعبرة**وتبكي عليها حسرة وتندما
وتستقبل العام الجديد بتوبة**لعلك أن تمحو بها ما تقدما
وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم المحرم شهر الله، وإضافته إلى الله تدل على شرفه وفضله؛ فإن الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواص مخلوقاته، كما نسب محمدا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه إلى عبوديته، ونسب إليه بيته وناقته، ولما كان هذا الشهر مختصا بإضافته إلى الله تعالى وكان الصيام من بين الأعمال مضافا إلى الله تعالى فإنه له من بين الأعمال ناسب أن يختص هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إليه المختص به، وهو الصيام وقد قيل في معنى إضافة هذا الشهر إلى الله عز وجل: إنه إشارة إلى أن تحريمه إلى الله عز وجل ليس لأحد تبديله، كما كانت الجاهلية يحلونه ويحرمون مكانه صفرا، فأشار إلى شهر الله الذي حرمه فليس لأحد من خلقه تبديل ذلك وتغييره:
شهر الحرام مبارك ميمون***والصوم فيه مضاعف مسنون
وثواب صائمه لوجه إلهه***في الخلد عند مليكه مخزون
الصيام سر بين العبد وبين ربه، ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي" وفي الجنة باب يقال له الريان لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه غيرهم، وهو جُنَّة للعبد من النار كجُنَّة أحدكم من القتال.
وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام يوما ابتغاء وجه الله تعالى بَعَّدَهُ الله من نار جهنم كبُعْدِ غراب طار وهو فرخ حتى مات هرمًا)) وفيه أن أبا أمامة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني؟ قال: ((عليك بالصوم؛ فإنه لا عدل له)) فكان أبو أمامة وأهله يصومون، فإذا رؤي في بيتهم دخان بالنهار، علم أنه قد نزل بهم ضيف.
وممن سرد الصوم عمر وأبو طلحة وعائشة وغيرهم من الصحابة وخلق كثير من السلف، وممن صام الأشهر الحرم كلها ابن عمر والحسن البصري وغيرهما، قال بعضهم: "إنما هو غداء وعشاء فإن أخرت غداءك إلى عشائك أمسيت وقد كتبت في ديوان الصائمين".
"للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه" إذا وجد ثواب صيامه مدخورا.
سمع بعضهم مناديا ينادي على السحور في رمضان يا ما خبأنا للصوَّام، فانتبه لذلك وسرد الصوم. وروي: أن الصائمين توضع لهم مائدة تحت العرش فيأكلون والناس في الحساب، فيقول الناس: ما بال هؤلاء يأكلون ونحن نحاسب؟ فيقال: كانوا يصومون وأنتم تفطرون. وروي أنهم يحكمون في ثمار الجنة والناس في الحساب. روى ذلك ابن أبي الدنيا في كتاب الجوع.
قال الله تعالى: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]. وقال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24] قال مجاهد وغيره: نزلت في الصوام. من ترك لله طعامه وشرابه وشهوته عوضه الله خيرا من ذلك طعاما وشرابا لا ينفد، وأزواجا لا تموت.
في التوراة: طوبى لمن جوَّع نفسه ليوم الشبع الأكبر، طوبى لمن ظمأ نفسه اليوم ليوم الري الأكبر، طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره، طوبى لمن ترك طعاما ينفد في دار تنفد لدار {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35].
من يرد ملك الجنان**فليذر عنه التواني
وليقم في ظلمة الليـ**ـل إلى نور القرآن
وليصل صوما بصوم**إن هذا العيش فانِ
إنما العيش جوار **الله في دار الأمان
كان بعض الصالحين يكثر الصوم، فرأى في منامه كأنه دخل الجنة فنودي من ورائه: يا فلان تذكر أنك صمت لله يوما قط؟ قال: إي والله يوم ويوم ويوم، فإذا صواني النثار قد أخذته يمنة ويسرة. كان بعض الصالحين قد صام حتى انحنى وانقطع صوته فمات، فرؤي بعضُ أصحابه في المنام فسئل عن حاله فقال:
قد كسي حلة البهاء وطا**فت بالأباريق حوله الخدام
ثم حلى وقيل يا قارِيَ ارقه**فلعمري لقد براك الصيام
صام بعض التابعين حتى اسود من طول صيامه، وصام الأسود بن يزيد حتى اخضر جسمه واصفر، فكان إذا عوتب في رفقه بجسده يقول: كرامة هذا الجسد أريد.
وصام بعضهم حتى وجد طعم دماغه في حلقه. كان بعضهم يسرد الصوم فمرض وهو صائم فقالوا له: أفطر، فقال: ليس هذا وقت ترك. وقيل لآخر منهم وهو مريض: أفطر، فقال: كيف وأنا أسير لا أدري ما يفعل بي.
مات عامر بن عبد الله بن الزبير وهو صائم ما أفطر، ودخلوا على أبي بكر بن أبي مريم، وهو في النزع وهو صائم فعرضوا عليه ماءً ليفطر، فقال: أغربت الشمس؟ قالوا: لا، فأبى أن يفطر ثم أتوه بماء وقد اشتد نزعه فأومأ إليهم: أغربت الشمس؟ قالوا: نعم فقطَّروا في فيه قطرةً من ماء ثم مات، واحتضر إبراهيم بن هانئ صاحب الإمام أحمد وهو صائم، وطلب ماء، وسأل: أغربت الشمس؟ فقالوا: لا، وقالوا له: قد رُخِّص لك في الفرض، وأنت متطوع، قال: أجل أمهلوا، ثم قال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61] ثم خرجت نفسه وما أفطر.
الدنيا كلها شهر صيام المتقين، وعيد فطرهم يوم لقاء ربهم، ومعظم نهار الصيام قد ذهب، وعيد اللقاء قد اقترب.
وقد صمت عن لذات دهري كلها ** ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي
ولما كان الصيام سرا بين العبد وربه اجتهد المخلصون في إخفائه بكل طريق حتى لا يطلع عليه أحد، قال بعض الصالحين: بلغنا عن عيسى بن مريم عليه السلام أنه قال: "إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن لحيته ويمسح شفتيه من دهنه، حتى ينظر إليه الناظر فيظن أنه ليس بصائم". وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "إذا أصبح أحدكم صائما فليترجل -يعني يسرح شعره- ويدهنه، وإذا تصدق بصدقة عن يمينه فليخفها عن شماله، وإذا صلى تطوعا فليصل داخل بيته". وقال أبو التياح: "أدركت أبي ومشيخة الحي إذا صام أحدهم ادَّهَن، ولبس صالح ثيابه.
صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد، كان له دكان فكان كل يوم يأخذ من بيته رغيفين، ويخرج إلى دكانه فيتصدق بهما في طريقه، فيظن أهله أنه يأكلهما في السوق، ويظن أهل السوق أنه أكل في بيته قبل أن يجيء.
اشتهر بعض الصالحين بكثرة الصيام فكان يقوم يوم الجمعة في مسجد الجامع، فيأخذ إبريق الماء فيضع بلبلته في فيه ويمتصها، والناس ينظرون إليه ولا يدخل حلقه منه شيء؛ لينفي عن نفسه ما اشتهر به من الصوم. كم يستر الصادقون أحوالهم، وريح الصدق ينم عليهم، ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية.
كم اكتم حبكم عن الأغيار**والدمع يذيع في الهوى أسراري
كم أستركم هتكتمو أستاري**من يخفي في الهوى لهيب النار
ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، فكلما اجتهد صاحبه على إخفائه فاح ريحه للقلوب، فتستنشقه الأرواح، وربما ظهر بعد الموت ويوم القيامة.
فكاتم الحب يوم البين مُنْهَتِكٌ ** وصاحب الوجد لا تخفى سرائره
ولما دفن عبد الله بن غالب كان يفوح من تراب قبره رائحة المسك، فرؤي في المنام فسئل عن تلك الرائحة التي توجد من قبره؟ فقال: تلك رائحة التلاوة والظمأ. وجاء في حديث مرفوع: ((يخرج الصائمون من قبورهم يُعْرَفون بريح صيامهم، أفواههم أطيب من ريح المسك)).
وهبني كتمت السر أو قلت غيره**أتخفى على أهل القلوب السرائر
أبى ذاك إن السر في الوجه ناطق**وإن ضمير القلب في العين ظاهر