ضرب الإسلام أبدع الأمثلة في التعايش السلمي مع الآخر, حتي في ظل الاضطهاد والتعذيب, وفي هذا يأتي نموذج التعايش بين المسلمين والآخر بعد البعثة النبوية.
فبعد نزول الوحي لم يترك الرسول صلي الله عليه وسلم ولا أصحابه الأوائل ممن آمن بدعوته أشغالهم, كما لم يحبسوا أنفسهم عن الناس وعن التجارة والسفر رغم ما عانوه من اضطهاد قريش, ولم يرفض المسلمون التعايش مع الآخر, بل إن الآخر_ أي مشركي قريش_ هم من قاموا بنبذ المسلمين ورفض التعامل معهم, وفرضوا حصارا علي المسلمين في شعب أبي طالب ثلاث سنوات,حتي اشتد بهم البلاء, ولجأ الصغار إلي أكل ورق الشجر,ووصل الظلم مداه إلي أن كره عامة قريش ما أصاب المسلمين,وأظهروا كراهيتهم لصحيفتهم الظالمة, فنقضوها.(السيرة النبوية لابن كثير47/2).
كما لم يهجر الرسول صلي الله عليه وسلم الكعبة,ولم يمنعه وجود الشرك وكثرة الأصنام فيها عن ارتيادها, فعن ابن مسعود قال:والله لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالكعبة- أي عندها_ ظاهرين آمنين,حتي أسلم عمر بن الخطاب,فقاتلهم حتي تركونا,فصلينا- أي وجهروا بالقراءة_ وكانوا قبل ذلك لا يقرءون إلا سرا.
ولم يسلم الرسول صلي الله عليه وسلم نفسه من الإيذاء علي يد قريش, سئل ابن عمرو بن العاص عن أشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلي الله عليه وسلم فقال:بينا النبي صلي الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط, فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا, فأقبل أبو بكر حتي أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلي الله عليه وسلم,وقال:(أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله)(رواه البخاري179/13).
ولقد وجد الصحابة كذلك من صنوف العذاب ألوانا علي يد مشركي قريش,إذ وثبت كل قبيلة علي من فيها من المسلمين فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر,ليفتنوهم عن دينهم.وكان رسول الله صلي الله عليه وسلم يحثهم علي الصبر وقوة التحمل إلي أن يجعل الله لهم مخرجا,قال خباب: أتيت النبي صلي الله عليه وسلم وهو متوسد بردة, وهو في ظل الكعبة, وقد لقينا من المشركين شدة فقلت: ألا تدعو الله؟فقعد وهو محمر وجهه فقال:' لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه, ويوضع المنشار علي مفرق رأسه, فيشق باثنين, ما يصرفه ذلك عن دينه, وليتمن الله هذا الأمر حتي يسير الراكب من صنعاء إلي حضرموت لا يخاف إلا الله'(رواه البخاري1322/3).
ولما سمع المسلمون ذلك تقووا وازدادوا في الثبات علي العقيدة والصبر علي البلاء, فهذا سيدنا بلال بن رباح,يوضع الحجر العظيم علي صدره,ويقال له:لا تزال هكذا حتي تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزي,فيقول وهو في ذلك البلاء:'أحد أحد'. فمر به أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوما فاشتراه وأعتقه.(السيرة النبوية لابن هشام317/1).
وفي ظل هذه الظروف القاسية قد يضعف بعضهم ويتراجع عن عقيدته جراء التعذيب الشديد,وهناك صنف آخر أضمر الإيمان وأظهر الكفر هربا من التعذيب والتنكيل مثل سيدنا عمار بن ياسر رضي الله عنه;إذ أخذه المشركون فلم يتركوه حتي سب النبي صلي الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير,ثم تركوه,فلما أتي رسول الله صلي الله عليه وسلم قال:'ما وراءك؟' قال:شر يا رسول الله, ما تركت حتي نلت منك وذكرت آلهتهم بخير.قال:'كيف تجد قلبك؟'قال:مطمئنا بالإيمان. قال:'إن عادوا فعد'(المستدرك علي الصحيحين389/2), وفي شأنه نزل قوله تعالي:( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا)(النحل:106), ولم يقف التعذيب عند الرجال,بل تعدي ذلك إلي النساء,فعذب المشركون أم عمار السيدة سمية حتي استشهدت, فكانت أول شهيدة في الإسلام, واستشهد كذلك زوجها ياسر, وكان رسول الله صلي الله عليه وسلم يمر عليهم فيأمرهم بالصبر ويبشرهم بالجنة,قائلا:'صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة'.
كذلك أعطي الرسول صلي الله عليه وسلم نموذجا إنسانيا ساميا للتعايش مع الآخر في ظل الاضطهاد والتعذيب,إذ لم يعاملهم بالمثل,بل قابل السيئة بالحسنة, حيث تمسك بأخلاقه الرفيعة في معاملة أهل مكة من المشركين,وهو الذي وصفه الله تعالي بقوله:( وإنك لعلي خلق عظيم),فكان أهل مكة_ رغم تكذيبهم واضطهادهم له_ يأتمنونه علي أشيائهم الثمينة والنفيسة, وقد تجلي صدق المعاملة والأمانة حين أمر صلي الله عليه وسلم بالهجرة من مكة إلي المدينة فترك وراءه سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليرد الأمانات إلي أهلها,ليكون مثالا فريدا في حفظ الأمانات والحرص علي تأديتها لأهلها رغم عداوتهم واضطهادهم له,مصداقا لقوله تعالي:(ولا يجرمنكم شنآن قوم علي ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوي)(المائدة:8).
إن المعاملة الحسني في مواجهة الإساءة,تجعل العدو صديقا,وتكون بابا من أبواب الدعوة إلي الإسلام بين غير المسلمين,كما قال الله عز وجل:(ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)(فصلت:34).
إن هذا النموذج الرائع- ومقامه( الصبر علي البلاء في التعايش مع الآخر)- يعد مثالا يحتذي في كل زمان ومكان,خاصة عندما يكون المسلمون أقلية في بلاد يعمل المتشددون فيها علي تشويه صورة الإسلام والمسلمين, ويحاولون اضطهادهم وإقصاءهم, ساعتها يتذكر المسلمون أسلافهم فيقتدون بهم في التمسك بثوابت الدين الحنيف مع بسط ثقافة التعايش السلمي ومكارم الأخلاق في العالمين.
=======================================
بقلم: د. علي جمعة