لم تكن هجرة الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة حدثًا من الأحداث العابرة التي تطوى في سطور الصحف، أو تطمر في غمار الأحداث، ولكنها أكبر وأجل وأعظم من كل حادثة أو حدث؛ لأنها تمثل تحولًا بالدعوة وتوسعًا في مجالاتها، ودعمًا لمقوماتها، وحركة وفكرًا وحياة، انبعثت تُذْكِي الروح المعنوية لجماهير المسلمين المقيمين في المدينة، والذين كانوا يترقبون بزوغ نور الإسلام على يثرب بقدوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليها واتخاذها مقرًّا للدعوة الإسلامية.
كانت الهجرة بداية انطلاق إلى آفاق تتسع فيها الدعوة وتسعى وتنتشر، وتعم الجزيرة العربية وما حولها، ولتصبح المدينة قاعدة الدولة والدعوة.
في الهجرة برزت أخلاق ومبادئ، كما كان فيها أمور خارقة لما اعتاده الناس، فقد أيَّد اللهُ رسولَه -صلى الله عليه وسلم- في هجرته بجنود لم يبصرهم الناس كما قال في كتابه في سورة التوبة: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا}. [التوبة: 40].
**********
قيم برزت بالهجرة
**********
وكان في الهجرة تلك الصداقة الصادقة التي تخلت عن المال والأهل والولد في سبيل الصحبة، تلك هي صداقة وصحبة أبي بكر -رضي الله عنه- وفداؤه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وترتيب وتدبير أمر الرحلة المباركة وعمالها من أولاد أبي بكر وعماله.
كانت كل تحركات أبي بكر حال رحلة الهجرة تشير إلى حرصه على سلامة صاحبه وبلوغه مقصده، فهو يرتاد الطريق ويمشي مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن يساره، ومن ثَم فقد برزت في الهجرة قيم الإيمان العميق بمبادئ الحق والعدل والخير والوفاء النادر.
وذلك كله سمو في الخُلُق الإنساني وبعثٌ للثقة في قدرة الإنسان -متى استقام على طريق الله- على النهوض بالأعباء التي أناطها الله به حين استخلف في الأرض، وهي إقامة الدين الحق الذي يصون الأمن ويُشيع الإخاء والمودة.
فِقهُ التجربة برز ظاهرًا واضحًا في تحديد المهام لكل المعاونين في نجاح الهجرة:
ومن فقه الهجرة جواز الاستعانة بغير المسلم فيما يحسنه مما يلزم المسلمين؛ فقد اختير دليل الرحلة خبيرًا يعرف دروب الصحراء، وكان غير مسلم.
بهذه الهجرة نشأت الدولة بعد أن أقيم المسجد وعقدت المعاهدات وتوالت التشريعات وتوالى النصر والانتصارات حتى دخلت الجزيرة كلها في دين الله.
كان الإسلام دعوة ودولة ولَحِقَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- برحاب الله راضيًا مرضيًّا.