وكان لا بد لهذه الدولة من سمة وتاريخ، ولم يكن للمسلمين ثمة قرار باتخاذ حدث معين يعتبر تأريخًا للدولة.
فقد نقَلَت كتب التاريخ أن التأريخ جرى على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببدء بعثته بهذا الدين، حتى كانت إمارة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقد كتب أبو موسى الأشعري إليه أنه "يأتينا من قِبَل أمير المؤمنين كتب ليس لها تاريخ فلا ندري على أيها نعمل".
وروى ميمون بن مهران قال: "رُفِع إلى أمير المؤمنين عمر صَكٌّ محله شعبان فقال: أي الشعابين هو؟ الذي مضى أو الذي نحن فيه أم الآتي؟"
وقال قرة بن خالد: "كان عند عمر عامل جاء من اليمن فقال لعمر: أَمَا تؤرخون؟ إني رأيت باليمن شيئًا يسمونه التاريخ، يكتبون من عام كذا وشهر كذا.
فقال عمر: إن هذا لحسن فأرِّخوا".
وفي رواية أخرى أنه جمع وجوه الصحابة فقال: "إن الأموال قد كثرت، وما قسمنا منها غير موقت -أي مؤرخ- فكيف التوصل إلى ما يضبط به ذلك؟ فقال قائل: اكتبوا على تاريخ الروم. فقيل: إنه يطول وإنهم يكتبون من عند ذي القرنين. فأراد عمر والناس أن يكتبوا من مبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ثم قالوا: من عند وفاته. ثم قالوا: من مولده. وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: منذ خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يعني يوم هاجر. فاتفقوا على أن يكون المبدأ من سنة الهجرة.
وقد كانت هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة في ربيع الأول.
فقال: بأي شهر نبدأ فنصيره أول السنة؟ فقالوا: رجب فإن أهل الجاهلية كانوا يعظمونه.
وقال آخرون: شهر رمضان. وآخرون قالوا: شهر ذي الحجة؛ لأن فيه الحج. وآخرون قالوا: الشهر الذي خرج فيه مهاجرًا. وآخرون قالوا: من الشهر الذي قدم فيه المدينة، وقد كانت الهجرة في شهر ربيع الأول. فقال عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أرخوا من المحرم أول السنة وهو شهر حرام وأول الشهور في العدة وهو منصرف الناس من الحج. فلما عزموا على تأسيس التاريخ الهجري حسبما اقترح عثمان رجعوا ثمانية وستين يومًا، وجعلوا التاريخ من أول محرم هذه السنة، ثم أحْصَوا من أول يوم في المحرم إلى آخر عمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان عشر سنين وشهرين، وأما إذا حسب عمره من شهر الهجرة الحقيقية -ربيع الأول- فيكون قد عاش في المدينة تسع سنين وأحد عشر شهرًا واثنين وعشرين يومًا".
وعمر -رضي الله عنه- بهذا هو واضع التاريخ الهجري ومؤصله، ولم يكن هذا التاريخ على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وهذا يدلنا على أن أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- قدروا أثر الهجرة وما تلاها من نصر للإسلام، وانتشاره، ودخول الناس في دين الله أفواجًا، فكانت بحق دنيا وحياة ودولة، ولم تكن حدثًا من الأحداث وإنما كانت نصرًا من الله: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. [التوبة: 40].