حث الإسلام أتباعه علي احترام الآخر ومعاملته بالحسني, ليكون المسلم نموذجا يحتذي به في كل زمان ومكان, ويكون بأخلاقه ومعاملاته أبلغ داعية إلي الإسلام,
مصداقا لقول الله تعالي:( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)( فصلت:34), ومنها أخذ قولهم:'الدين المعاملة', ففعل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل, والمعاملة الحسنة تجعل الإنسان محبوبا بين الناس, ومقابلة الإساءة بالإحسان, تجعل من الأعداء حلفاء ومناصرين, كما أن الإحسان في الدعوة إلي الإسلام فيه ترك ما يثير حمية غير المسلمين لدينهم ويقرب لين نفوس ذوي النفوس اللينة.
ومن هنا كانت علاقة الرسول صلي الله عليه وسلم والمسلمين مع النجاشي وأهل الحبشة علاقة ود واحترام ولين في الكلام, فالمسلمون احترموا أهل الحبشة ولم ينكروا عليهم دينهم, ولم يتدخلوا في شئونهم الداخلية إلا في مساعدتهم في إطار من التعاون والمشاركة والوفاء لجميل إيوائهم وحسن وفادتهم. وعلي الجانب الآخر وفي ظل هذه العلاقة الطيبة كان النجاشي يبعث للرسول صلي الله عليه وسلم العديد من الهدايا تعبيرا عن تقديره للرسول, فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت:أهدي النجاشي إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم حلقة فيها خاتم ذهب فيه فص حبشي, فأخذه رسول الله صلي الله عليه وسلم.. ثم دعا ابنة ابنته أمامة بنت أبي العاص, فقال:'تحلي بهذا يا بنية'(سنن أبي داوود92/4, كذلك أهدي النجاشي إلي النبي صلي الله عليه وسلم خفين ساذجين-ليست عليهما زينة- أسودين, فلبسهما ومسح عليهما.(ابن ماجه182/1).
ولا شك أن الصحابة الذين هاجروا إلي الحبشة كانوا تحت رعاية النجاشي بنفسه وتحت نظره ليري ما يفعلونه في حياتهم من عبادات ومعاملات, ولعل هذا ما أكد صدق كلامهم عنده في أول لقاء وقربه أكثر لمعرفة هذا الدين, ثم تبادل مع الرسول صلي الله عليه وسلم الرسائل والمكاتبات, وقد حمل بعضها دعوة رسول الله النجاشي إلي الإسلام, ورد عليه النجاشي بحب وتوقير وإقرار بأنه رسول الله حقا, وأنه صادق مصدق, وختم ذلك بمبايعته له. وهذا ما أكده حرص الرسول صلي الله عليه وسلم علي الصلاة عليه حين مات, حيث قال صلي الله عليه وسلم:'مات اليوم رجل صالح, فقوموا فصلوا علي أخيكم أصحمة'(البخاري51/5).
كذلك نري من خلال نموذج تعايش المسلمين في الحبشة كيف فرح المسلمون بنصر النجاشي علي عدوه الذي نازعه في ملكه, وفي هذا تقول أم سلمة رضي الله عنها:'فدعونا الله تعالي للنجاشي بالظهور علي عدوه والتمكين له في بلاده... فوالله ما علمتنا فرحنا فرحة قط مثلها.قالت: ورجع النجاشي, وقد أهلك الله عدوه ومكن له في بلاده واستوسق عليه أمر الحبشة, فكنا عنده في خير منزل حتي قدمنا علي رسول الله وهو بمكة'(السيرة النبوية لابن هشام1/334).
وردا للمعروف لما قدم وفد النجاشي علي رسول الله صلي الله عليه وسلم كان يخدمهم بنفسه فقال له أصحابه:نحن نكفيك.فقال:'إنهم كانوا يكرمون أصحابي وأحب أن أكافئهم'(المصباح المضيء2/36.
كما فرح النجاشي بنصر النبي صلي الله عليه وسلم علي مشركي مكة في غزوة بدر بها قبل من عنده من المسلمين, فأرسل إليهم, فلما دخلوا عليه إذا هو قد لبس مسحا وقعد علي التراب والرماد, فقالوا له:ما هذا أيها الملك؟ فقال:( إنا نجد في الإنجيل أن الله سبحانه إذا أحدث بعبده نعمة وجب علي العبد أن يحدث لله تواضعا, وإن الله قد أحدث إلينا وإليكم نعمة عظيمة, وهي أن النبي محمدا صلي الله عليه وسلم بلغني أنه التقي هو وأعداؤه بواد يقال له: بدر, كثير الأراك, وأن الله تعالي قد هزم أعداءه فيه, ونصر دينه)( الروض الأنف116/2).
وفي إطار هذا التعايش السلمي بين المسلمين وأهل الحبشة يذكر أن جعفرا رضي الله عنه ولد له بأرض الحبشة ثلاثة أولاد:محمد, وعون, وعبد الله. وكان النجاشي قد ولد له مولود يوم ولد عبد الله, فأرسل إلي جعفر يسأله كيف أسميت ابنك؟ فقال:عبد الله. فسمي النجاشي ابنه عبد الله, وأرضعته أسماء بنت عميس امرأة جعفر مع ابنها عبد الله, فكانا يتواصلان بتلك الأخوة.( الروض الأنف103/4).
وكما نجد أن المهاجرين اليوم إلي دول أخري يفضلون الإقامة الدائمة في تلك البلدان, ما داموا آمنين مطمئنين علي أنفسهم ودينهم, كذلك نجد أن فئة من الصحابة حبذت الإقامة في الحبشة حتي بعد هجرة الرسول صلي الله عليه وسلم إلي المدينة, حيث بقي منهم في الحبشة نحو خمسين أو ستين تحت حماية النجاشي.
وفي هذه العلاقة الطيبة مع الآخر من خلال نموذج الحبشة نجد أن تعاليم الإسلام ومبادئه السمحة ما زالت بعيدة عن متناول أيدي غير المسلمين الآن, مما يدفع الآخر إلي النفور من الإسلام, حيث يري كثير من غير المسلمين أن الإسلام هو ما يقوم به المسلمون من معاملات معهم, لذا فقد أصبحت معاملات بعض المسلمين الخاطئة والمنفرة مع الآخر بمثابة حجاب لحقيقة الإسلام, يمنع الآخر من اعتناقه أو التقرب إليه, مما يدق نواقيس الخطر لدي المسلمين ويرشدهم هم أولا أن يرجعوا إلي الالتزام بمبادئ الإسلام السمحة, وأخلاقه القويمة في تعاملاتهم مع الآخر, لتكون أفعالهم_ وليست أقوالهم_ نورا يهتدي به الآخرون إلي صراط الله المستقيم.
========================================
بقلم: د. علي جمعة