لم تكن رحلة الإسراء والمعراج معجزة منتهية المفعول, محددة الزمان والمكان, بل مازالت ماثلة أمامنا بما احتوته من أحداث وعبر, كما أنها مازالت منهلا عذبا تستفيد منه الأمة في معالجة قضاياها الراهنة اقتداء بالحبيب المصطفى والرسول المجتبى صلى الله عليه وسلم.
ومعجزة الإسراء والمعراج علم غيب جعله الله شهادة لرسوله صلى الله عليه وسلم, فكان الغيب مرئيا مشاهدا في عين وبصر النبي صلى الله عليه وسلم غيب تراه عينه, ويدركه عقله, ويستنير به فهمه, ويستوعبه قلبه, وتعيه مدركاته لتعلم الخلائق جمعاء أنه في أعلى مراتب الإيمان واليقين.
فالرحلة التي قام بها صلى الله عليه وسلم في إسرائه إلى بيت المقدس, ثم معراجه إلى ما فوق السماوات السبع لينتهي به المطاف عند سدرة لينتهي في دقائق معدودة ليعود فيجد فراشه مازال دافئا, كل هذا أمر لم يتكرر مرة أخرى مع بشر, وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على مدى تميز هذه الحادثة عن بقية التاريخ الإنساني جملة وتفصيلا.
وفيما يتعلق بإسرائه صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الإسراء:1] إنها لحظة لطيفة لا يدركها الإنسان بحواسه, فهي معجزة زمانية ومكانية, وهي منحة إلهية وتسرية ربانية للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث تجلى علم الغيب للرسول المجتبى فأصبح علم شهادة, وذلك في انتقاله اللحظي من مكة إلى بيت المقدس.
إن معجزة الإسراء والمعراج لا تخضع لقوانين الكون إنما هي استثناء, لأن الذي خلق المكان والزمان, اختصرهما وطواهما لسيد الأنام, كما لا يمكن أن يفسر ذلك وفق قوانين الأرض, فهو خروج جزئي وكلي عن قوانين الأرض ومدارك الإنسان. وهو ما تفرد به النبي محمد صلى الله عليه وسلم حيث جمع الله عز وجل له في حادثة واحدة بين هذين الخروجين. ففي الإسراء خروج جزئي وكشف محدد لعالم الغيب أمام الرسول صلى الله عليه وسلم, إذ قد أصبح من الممكن للإنسان في العصر الحالي السفر من الشرق إلى الغرب في وقت قصير, مما يؤكد إعجاز حادث الإسراء في ذلكم العصر.
ومعجزة الإسراء هي كشف وتجلية للرسول صلى الله عليه وسلم عن أمكنة بعيدة في لحظة خاطفة قصيرة, وكل من له علم بالقدرة الإلهية وطبيعة النبوة لا يستغربون من ذلك شيئا, فالقدرة الإلهية لا يقف أمامها شيء وتتساوي أمامها جميع الأشياء والمقدرات, فما اعتماد الإنسان أن يشاهده ويدركه بحواسه البشرية الضعيفة ليس هو الحكم في تقدير الأمور بالقياس أمام القدرة الإلهية, ومن جهة أخرى فإن من خصائص طبيعة النبوة أن تتصل بالملأ الأعلى, وفي هذا الأمر تجليات وفتوحات ربانية يمنحها اللطيف القدير لمن يصطفيه ويختاره من رسله.
والوصول إلى الملكوت الأعلى بأي وسيلة كانت -معلومة أو مجهولة- ليس أغرب من تلقي الرسالة والتواصل مع الذات العلية, ولهذا فقد صدق أبو بكر رضي الله عنه هذه المعجزة قائلا: إني لأصدقه بأبعد من ذلك, أصدقه بخبر السماء (رواه الحاكم في المستدرك 65/3) وأبو بكر الصديق يشير من واقع إيمانه العميق إلى أن هذه الحادثة ليست قضية مهولة ولا هي ضربا من الخيال, بل هي مسألة معتادة بالنظر إلى طبيعة العلاقة بين الله ورسله ومن كشف الغيب لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عندما عاد وجادله المشركون في مكة غير مستوعبين لتلك المعجزة, وطلبوا منه وصف المسجد الأقصى, جلى الله له المسجد رأي العين, فأخذ يصفه لهم ركنا ركنا.
كما يتجلى في رحلة الإسراء وحدة الرسالات السماوية وأصل التوحيد, فكل الرسل جاءت بدعوة الإسلام قال تعالى: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136] وقال: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78], وقد التقى رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة بإخوانه من الأنبياء, وصلوا صلاة واحدة يؤمهم فيها صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, إشارة إلى أن هذه الأمة تتبع جميع الأنبياء وتؤمن بهم, وأن آخر الرسل موصول بأولهم.
إن الله سبحانه كما أرسل الرسل بالعهد القديم, والعهد الجديد, فقد ختمهم برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم الذي أنزل معه العهد الأخير والرسالة الخاتمة: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81], وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله, إلا موضع لبنة من زاوية, فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له, ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة قال فأنا اللبنة, وأنا خاتم النبيين (أخرجه البخاري ومسلم).
لقد أصبحت هذه الرحلة رمزا أبعد وأوسع من حدود الزمان والمكان لتأكيد أن الإسلام هو دين الله الخاتم وهو الدين الذي أرسل بأصله الأنبياء والمرسلون لهداية العالمين.
إن حادثة الإسراء معجزة رسالة إلى يوم الدين, لابد فيها من الإيمان والتذكير بشرف الزمان الذي وقعت فيه, وشرف المكان الذي بدأت منه والمكان الذي انتهت إليه, وصولا إلى شرف النبي الخاتم الذي به تشرفت مفردات الوجود في هذه الحادثة وغيرها سواء الزمان والمكان والأحوال والأشخاص.
--------------------------------------------------------------------
الإمام العلامة أ.د.علي جمعة مفتي الديار المصرية