جاء الإسلام دينا للسلام بين شعوب الأرض, قال تعالي:( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)( الحجرات:31) والتعارف لا يأتي إلا عن طريق السلام, كذلك أرسل الله عز وجل رسوله محمدا صلي الله عليه وسلم رحمة للعالمين:( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)( الأنبياء:801),
ولهذا كانت سياسة الرسول صلي الله عليه وسلم في المدينة هي نبذ الحرب واتقاءها نظرا لما تخلفه من تدمير وتخريب, فقال: أيها الناس لا تمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية, فإذا ليقتموهم فاصبروا( البخاري2801/3), كما أوصي جيش المسلمين في الحروب بقوله: 'انطلقوا باسم الله وبالله وعلي ملة رسول الله, لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة.. واصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين'( أبو داود73/3).
فالمنهج تجاه الحروب هو تجنبها قدر الاستطاعة, لأنها استثناء, فإن كانت فعلي المسلمين الصبر والثبات وعدم التجاوز:( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)( البقرة:091).
والسلام هو المبدأ الرئيس, وهو الغاية والهدف, أما الحرب فهي إحدي وسائل تحقيق هذا الهدف, قال تعالي:( فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا)( النساء:09). وجاءت آية أخري تحث علي السلم وتؤكده في مبدأ قرآني رباني يتميز بالقطع والشمول والعموم في كل زمان ومكان:( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)( الأنفال:16).
ومن لطائف حرص الإسلام علي السلام أن القتال لم يشرع في القرآن أمرا, بل جاء إذنا فقال سبحانه:( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله علي نصرهم لقدير)( الحج:93), ذلك أن الحرب هي شر لدفع شر أكبر منه, فالنفس البشرية تعودت علي أن بعض الشرور لا تدفع بالخير, بل لا تقهر إلا بشر آخر, قال تعالي:( كتب عليكم القتال وهو كره لكم)( البقرة:612).
ومن أهداف الإسلام في الحرب عصمة الدماء لأدني شبهة, فلا يحل دم من نطق بالشهادتين, لأننا أمرنا بالأخذ بالظاهر وعدم التفتيش عن قلوب الناس, ولو أظهر أحد المقاتلين الشهادة عصم دمه وأمن, فقد قال المقداد بن الأسود: يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلني فضرب إحدي يدي بالسيف فقطعها, ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله, أفأقتله يارسول الله بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: لا تقتله. قال: فقلت يا رسول الله إنه قد قطع يدي, ثم قال ذلك بعد أن قطعها, أفأقتله؟ قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: 'لا تقتله, فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله, وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال'( مسلم45/1).
وفي هذا المعني قال تعالي:( ولا تقولوا لمن ألقي إليكم السلام لست مؤمنا)( النساء:49), ومعني ألقي السلم أظهره بينكم, والسلام سواء عند من قرأها بالألف أو بدونها, هو مشترك بين معني السلم ضد الحرب ومعني تحية الإسلام, فهي قول: السلام عليكم, ومقتضي الإطلاق أن من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله أو قال إني مسلم يحكم له بحكم الإسلام.
قال الإمام الشافعي: إنما منع رسول الله صلي الله عليه وسلم من قتل المنافقين ماكانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم, لأن مايظهرونه يجب ما قبله, ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المجمع علي صحته في الصحيحين وغيرهما: أمرت أن أقاتل الناس حتي يقولوا: لا إله إلا الله, فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها, وحسابهم علي الله, ومعني هذا: أن من قالها جرت عليه أحكام الإسلام ظاهرا, فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الدار الآخرة, وإن لم يعتقدها لم ينفعه في الآخرة جريان الحكم عليه في الدنيا, وكونه كان خليط أهل الأيمان( ابن كثير09/1).
ولذلك فحديث الأمر بالقتال تحديد لغاية يتوقف عندها القتال مهما كانت أسبابه, فهو حديث رحمة وتسامح, وليس كما اشتبه علي البعض أنه يحدد غاية يستمر من أجلها القتال.
قال الشيخ رشيد رضا: والتحقيق أن المراد من الحديث هو ترك الكفر والدخول في الإسلام, وللدخول في الإسلام صيغة وعنوان يكتفي به في أول الأمر, ولا سيما مواقف القتال, وهو النطق بالشهادتين, وقد يكتفي من المشرك بكلمة: لا إله إلا الله, لأنهم كانوا ينكرونها, وهي أول مادعوا إليه, بل أنكر النبي صلي الله عليه وسلم علي خالد بن الوليد قتل من قتل من بني جذيمة بعد قولهم صبأنا, وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد, وذلك أنهم كانوا يعبرون بهذه الكلمة عن الإسلام فيقولون: صبأ فلان: إذا أسلم, والحديث في مواضع من صحيح البخاري وغيره, وإنه ـ أي الحديث ـ وارد في بيان الغاية التي ينتهي إليها قتال من يقاتلنا من الكفار, فلا يدخل في معناه بيان ما يصير به المؤمن كافرا( تفسير المنار351/01).
وهذا مانجده في هدي سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم في عصمة الدماء جميعها, وتأكيد أن الحرب هي للذود عن حياض الإسلام, سواء كانت دفاعا عن دياره من هجمات الأعداء, أم درءا للمخاطر التي يغلب الظن البين للقائمين علي شئون البلاد أن العدو في حكم من أعلن القتال والعدوان, وإلا فالأصل نبذ الحروب والدعوة الي السلم واحترام كرامة الإنسان فضلا عن الحفاظ علي نفسه ومراعاة أنه صنعة الله وخلقه وأن فيه سرا من روح الله:( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)( الحجر:92).
----------------------------------------------------
أ.د علي جمعة مفتي الديار المصرية