صناعة الإفتاء من العلوم المعقدة التي تحتاج إلى حرفية خاصة للقيام بها وإصدارها في صورة صحيحة، وتعد عملية صياغة الفتوى من أعقد العناصر في هذه الصناعة، حيث تمر الفتوى في ذهن المفتي بأربع مراحل أساسية، تخرج بعدها في صورتها التي يسمعها أو يراها المستفتي، وهذه المراحل الأربع هي: مرحلة التصوير، ومرحلة التكييف، ومرحلة بيان الحكم، ومرحلة الإصدار، وفيما يلي بيان لهذه المراحل.
المرحلة الأولى: مرحلة التصوير:
وفيما يتم تصوير المسألة من قبل السائل الذي يريد أن يستفتي في واقعة نزلت به أو بغيره، والتصوير الصحيح المطابق للواقع شرط أساسي لصحة الفتوى ومطابقتها للواقع الفعلي المسئول عنه، فعدم صحة التصوير يؤدي إلى أن الفتوى الصادرة ستكون لما فهم من السؤال وليس لما هو في نفس الأمر، وعبء التصوير أساساً يقع على السائل، لكن المفتي ينبغي عليه أن يتحرى بواسطة السؤال عن الجهات الأربع التي تختلف الأحكام باختلافها، وكثيراً ما يتم الخلط والاختلاط من قبل السائل بشأنها، وهي الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، كما ينبغي على المفتي أيضا أن يتأكد من تعلق السؤال بالأفراد أو بالأمة لأن الفتوى تختلف باختلاف هذين الأمرين.
والتصوير قد يكون لواقعة فعلية وقد يكون لأمر مقدر لم يقع بعد، وحينئذ فلابد من مراعاة المآلات والعلاقات البينية، وبقدر ما عند المفتي من قدرة على التصوير بقدر ما تكون الفتوى أقرب لتحقيق المقاصد الشرعية وتحقيق المصلحة ودرء المفسدة.
وقد نص الغزالي في كتاب «حقيقة القولين» كما أورده السيوطي في «الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض» على أن وضع الصور بالمسائل ليس بأمر هين في نفسه، بل الذكي ربما يقدر على الفتوى في كل مسألة إذا ذكرت له صورتها، ولو كلف وضع الصور وتصوير كل ما يمكن من التفريعات والحوادث في كل واقعة عجز عنه، ولم يخطر بقلبه تلك الصور أصلا، وإنما ذلك من شأن المجتهدين.
المرحلة الثانية: مرحلة التكييف:
والتكييف هو إلحاق الصورة المسئول عنها بما يناسبها من أبواب الفقه ومسائله، فنكيف المسألة مثلا على أنها من باب المعاملات لا العبادات، وأنها من باب العقود، وأنها من قسم مسمى منها، أو من العقود الجديدة غير المسماة، وهذه مرحلة تهيئ لبيان حكم الشرع الشريف في مثل هذه الواقعة، والتكييف من عمل المفتي، ويحتاج إلى نظر دقيق، لأن الخطأ فيه يترتب عليه الخطأ في الفتوى، والتكييف قد يختلف العلماء فيه، وهذا الاختلاف أحد أسباب اختلاف الفتوى، والترجيح بين المختلفين حينئذ يرجع إلى قوة دليل أي منهم، ويرجع إلى عمق فهم الواقع، ويرجع إلى تحقيق المقاصد والمصالح ورفع الحرج وهي الأهداف العليا للشريعة.
المرحلة الثالثة: مرحلة بيان الحكم:
والحكم الشرعي هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع، ويؤخذ هذا من الكتاب والسنة والإجماع، ويتم إظهاره أيضاً بواسطة القياس والاستدلال، ويجب على المفتي أن يكون مدركاً للكتاب والسنة ومواطن الإجماع وكيفية القياس ودلالات الألفاظ العربية وترتيب الأدلة وطرق الاستنباط، وإدراك الواقع إدراكاً صحيحاً، وتأتي هذا بتحصيله لعلوم الوسائل والمقاصد كالأصول والفقه واللغة والحديث ونحوها، وبتدريبه على الإفتاء الذي ينشئ لديه ملكة راسخة في النفس يكون قادراً بها على ذلك، وكذلك تحليه بالتقوى والورع والعمل على ما ينفع الناس.
المرحلة الرابعة: إصدار الفتوى:
أو مرحلة التنزيل أي إنزال هذا الحكم الذي توصل إليه على الواقع، وحينئذ فلابد عليه من التأكد أن هذا الذي سيفتي به لا يكر على المقاصد الشرعية بالبطلان، ولا يخالف نصاً مقطوعاً به ولا إجماعا متفقا عليه ولا قاعدة فقهية مستقرة، فإذا وجد شيئاً من هذا فعليه بمراجعة فتواه حتى تتوفر فيها تلك الشروط.
هذه هي المراحل الأربع لصياغة الفتوى وهذا عرض موجز لها لتبسيط مفهومها للقارئ، ويجب الإشارة أن الاختلاف بين المجتهدين في صياغة الفتوى قد يقع في أي مرحلة من هذه المراحل، فقد يختلف المفتون في عملية التصوير مما يترتب عليه اختلاف فتواهم في نفس المسألة، وقد يقع الاختلاف عند التكييف أو بيان الحكم أو حتى في المرحلة الرابعة الخاصة بإصدار الفتوى، واختلافهم في كل ذلك رحمة للمسلمين وصدق قول الشاعر:
وكلهم من رسول الله ملتمس ** غرفاً من البحر أو رشفاً من الديمّ
------------------------------------------------------------
أ.د على جمعة مفتي الديار المصرية