تكلمنا في المقال السابق عن مفهوم المعاجز، وأنها ضد مراد الله من عباده، حيث أراد منهم الإيمان والتسليم والإذعان، وقد أورد الله تعالى أمثلة لهؤلاء المعاجزين ليكونوا مثلا وعبرة للمؤمنين، ومن أكبر الأمثلة التي ضربها الله في كتابه للمعاجزين «قارون» الذي ظن أن ما به من قوة ومال هو استحقاق له، وأنه على علم عنده، وأنه لا يمكن أن يزول، فنسى الله، فأنساه الله نفسه، قال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ أُولِي القُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ المُجْرِمُونَ} [القصص:76-78].
فماذا كانت عاقبة ذلك المعاند؟ قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:81-83].
ومعاجزة قارون تمثلت في قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} ولم تكن هذه مقالة قارون وحده، وإنما هي مقالة كل إنسان مغرور بالدنيا وبما آتاه الله منها، قال تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزُّمر:49]، فالإنسان مقهور بقدر الله وأمره، وإن توهم غير ذلك، قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83]، وقال تعالى: {وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالغُدُوِّ وَالآَصَالِ} [الرعد:15].
كما ضرب الله نماذج للمعاجزين من التاريخ والآثار، فقال سبحانه: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر:44]، وقد تيقن فريق الجن الذي سمع القرآن أنه لا يعجز الله، ولا يمكن الهروب منه، قال تعالى حكايةً عنهم: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا} [الجنّ:12] و(ظَنَنَّا) هنا ليست على معناها الأصلي من عدم التأكد، وإنما هي بمعنى (علمنا) و(تيقنا) وذلك كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46]، وقوله سبحانه: {وَظَنَّ أَنَّهُ الفِرَاقُ} [القيامة:28].
فمن حاول مبارزة الله بالمعاصي أصيب بالوباء والبلاء فينال الجزاء الأوفر، وقد صدق رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- حيث تحدث عن خمسة أصناف من هؤلاء المعاجزين ويحذر المهاجرين من ذلك فيقول: «يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعملوا بها إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا الزكاة إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدوهم من غيرهم وأخذوا بعض ما كان في أيديهم، وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله إلا ألقى الله بأسهم بينهم» (أخرجه الحاكم في المستدرك).
المعاجزة فخ يقع فيه الإنسان عندما يظن أن له حولا وقوة من دون الله، فعن أبي هريرة فيما رواه الإمام أحمد في مسنده أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «ألا أدلكم على كلمة من تحت عرش الرحمن؟ تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فيقول الله: أسلم عبدي واستسلم» فاللهم اجعلنا من القانعين بحكمك المستسلمين لقضائك.
-----------------------------------------------------------------------------------
أ.د علي جمعة مفتي الديار المصرية