من قوانين الله وسننه الثابتة في كونه وجود نخبة من الناس تتصدر لحل المشكلات ورسم طريق الخروج من الأزمات. ومفهوم النخبة نراه بارزاً في الكتاب والسنة ومرتبطاً بتاريخ البشر وواقعهم، ولكنه قد يتعرض في بعض الأوقات من قبل بعض التيارات المتعصبة لكثير من الرفض، والتي تبغي من خلال مجهودات ضخمة، إلى تحطيمه واقتلاعه من فكر الناس وواقعهم.
والغريب أن هذه التيارات في دعواها للقضاء على نخبة المجتمع من الحكماء تقودنا إلى شيء جديد تماماً لا نعرف ملامحه ولا إلى أي طريق يقودنا إليه، وما النتائج أو المصائب التي ستترتب عليه، فهذا الشيء لا يعتمد على تجربة بشرية مستقرة قد نجحت لكي نقلدها أو نسير على خطاها، بل إنه مخالف لسنة الله في كونه، من أنه سبحانه فضّل بعض الأزمان على بعض، وفضل بعض الأماكن على بعض، وفضّل بعض الأشخاص على بعض، وفضل بعض الأحوال على بعض، وجعل من هذا التباين سبباً لدفع الناس، وتعارفهم، ولعمارة الأرض وحراكهم عبر حركة التاريخ.
وأن القضاء على النخبة والدعوة إلى التساوي المطلق قد يتضمنان في طياتهما هلاك العالم، وهناك مجموعة من النصوص التي يمكن أن تكون أساساً لهذا المعنى، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي المَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11].
وقال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253]، وقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، فجعل الله للناس رؤوساً، وجعل ذلك طبقاً لكفاءاتهم، ورغبتهم في الإصلاح دون الإفساد، ونعى على ذلك التصور الذي يكون فيه جميع الناس في تساوٍ مطلق، فقال: {لَوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد:31] وقال: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].
وعدم التساوي لا يعني أبداً عدم المساواة، فربنا يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الناس كأسنان المشط». (رواه القضاعي في مسند الشهاب)، وقال صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى». (رواه أحمد والطبراني في الأوسط والكبير).
ووجود النخبة والصفوة يؤدي إلى حل المشكلات، وإلى الأمن والاستقرار بين الناس، والفتن الأخيرة في مصر لم تكن في حاجة إلا إلى نخبة تتدخل فتوقفها، والانفلات الحاصل في الفضائيات سواء في مجال الفتاوى أو البرامج الدينية من ناحية، أو الفساد العريض من ناحية أخرى، كان يمكن حله بمجلس الحكماء، إلا أننا نرى هجمة شرسة لا تستثني أحداً برؤوس مصر وحكمائها، يتبناها ذلك التيار الذي يريد اقتلاع النخبة، والقضاء على الصفوة، غير مدركين أن الصفوة إذا ذهبت، ذهب معها الأمن والاستقرار والتقدم، وأدت إلى الفتنة والحيرة والاضطراب.
وعلى الشعب بأجمعه أن يحافظ على هذه النخبة ويدافع عنها ويعينها على تحقيق الدور الذي كلفت به، وهذا لا يعني أن هذه النخبة فوق القانون، ولكن عند توجيه الاتهامات يجب أن تبنى على حقائق ثابتة وليس على أحداث مختلقة أو خيالات مريضة، يحاول أصحابها أن يحولوها إلى واقع يعيشون فيه، يظنونه الحقيقة، والنبي صلى الله عليه وسلم، يقول فيما أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع»، ويقول صلى الله عليه وسلم: «ولا يزال يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذاباً» (رواه البخاري ومسلم وابن حبان واللفظ له)، وانظر إلى كلمة «يتحرى الكذب»، أي أنه يعشقه ويسر به ويتتبعه وينشئه، فإنا لله وإنا إليه راجعون، واللهم أجرنا في مصيبتنا، ويقول صلى الله عليه وسلم: «وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه» (رواه البخاري والترمذي واللفظ له)، وفى لفظ البخاري: «يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب»، وذلك لما يترتب عليها من إساءة ومن ضرر على المستويين العام والخاص.
ووجود هؤلاء الحكماء والمحافظة عليهم - بل إقالة عثرتهم إذا عثروا تحقيقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم» (رواه أبو داود وابن حبان والدارقطني في سننه) - هو الذي يحكيه الأفوه الأودي في قصيدته، حيث يقول:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ** إذا تولى سراة القوم أمرهم
ولا سراة إذا جُهّالهم سادوا ** نما على ذاك أمر القوم فازدادوا
وتوجيه القرآن والسنة وحكمة الشعر يحكي واقعاً معيشاً لا فكاك منه، وطاعة هذه الأمور هي نوع من الحكمة، قال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: ٢٦٩]، ودون ذلك يصدق قول الأفوه الأودي في القصيدة نفسها، حيث يقول:
كيف الرشاد إذا ما كنت في نفرٍ ** لهم عن الرشد أغلال وأقياد؟
للنخبة دور مهم في نقل مصر إلى الاستقرار والأمن، ويجب على هؤلاء النخبة أن يتصدروا الصفوف ويبادروا بوضع الخطط ووصف الطريق لحل المشكلات من جذورها، وعلى عامة الشعب أن يؤيدوهم في مهمتهم للخروج بالبلاد إلى شاطئ السلامة وبر الأمان.
-------------------------------------------------
أ.د علي جمعة مفتي الديار المصرية