تمثل سيرة رسول الله صلي الله عليه وسلم لنا ارضا خصبة للتأمل وأخذ الأسوة في معالجة الأمور وإدارة جميع مايعن لنا من مصاعب وخطوب, فقد كانت له عليه السلام طريقة فريدة في إدارة الازمات وفق حكمة سديدة,
فقد كان عليه السلام بفطنته ينهي منازع الخلاف بشكل قاطع, مع حماية المجتمع الإسلامي من آثار الأزمة, بل يعمل علي الاستفادة من الموقف الناتج عن الأزمة في الاصلاح والتطوير, واتخاذ اجراءات الوقاية لمنع تكرار الأزمة أوحدوث أزمات مشابهة لها. وانك لتري آثار هذه الحكمة في تلك المعالجات في السيرة النبوية الشريفة قبل البعثة وبعدها فمن ذلك أنه قبل البعثة اعادت قريش بناء الكعبة علي أساس قواعد ابراهيم عليه السلام حتي بلغ البنيان موضع الركن فأرادت كل قبيلة أن ترفع الحجر الأسود الي موضعه دون الأخري, فاختصموا وأوشكوا علي الاقتتال, ولما أخبروا رسول الله صلي الله عليه وسلم الخبر, قال: 'هلم إلي ثوبا', فأتي به, فأخذ الركن فوضعه فيه بيده ثم قال: 'لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا ففعلوا حتي اذا بلغوا موضعه وضعه هو بيده الشريفة ثم بني عليه'( سيرة ابن هشام182/1)
وبهذا التفكير السليم والرأي الصائب حسم صلي الله عليه وسلم الخلاف بين قبائل مكة, وأرضاهم جميعا, وجنب بلده وقومه حربا ضروسا شحذت كل قبيلة فيها أسنتها.
وبعد بعثته صلي الله عليه وسلم, واجه المسلمون الكثير من الازمات المختلفة الاشكال, بين تعذيب لكل من أسلم, وحصار في شعب أبي طالب, ثم بعد الهجرة اخذت المواجهات بين المسلمين والكفار اتجاها أشد ضراوة من مثل ما صوره القرآن في واقعة الأحزاب, قال تعالي:' إذ جاءوكم من فوقكم ومن اسفل منكم واذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجروتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا'( الاحزاب:10 ــ11)
وعندما عرف أعداء الاسلام بعد الحروب الطويلة مع المسلمين أن القضاء علي هذا الدين وأهله لايمكن بطريق استخدام السلاح, قرروا أن يشنوا حربا دعائية واسعة ضد هذا الدين من ناحية الاخلاق والتقاليد, وأن يجعلوا شخصية الرسول أول هدف لهذه الدعاية, وذلك من خلال المنافقين من سكان المدينة, فكانوا يستفزون المسلمين ويمارسون حربا نفسية معهم, حتي طالت بيت رسول الله صلي الله عليه وسلم نفسه فيما كذبوا عليه في حادثة الإفك.
ولكن الرسول صلي الله عليه وسلم استطاع الامساك بزمام هذه الصعاب والوصول بالمسلمين الي بر الأمان بحكمته وادارته الواعية لتلك الشدائد,من حيث إدراك الواقع علي ماهو عليه,والحكمة في معالجة الأمور, واعتبار المقاصد والمآلات, والاستفادة من الازمة لما بعدها, والعمل علي عدم تكرارها, وكسب أرض جديدة منها, حتي تكون المحنة منحة.
ومما عاناه المسلمون كذلك من المرجفين واصحاب الاهواء والمصالح الضيقة في المدينة, وكان سبيل الخلاص من كل ذلك حكمة الرسول صلي الله عليه وسلم من ذلك ما فعله صلي الله عليه وسلم.. حينما بلغه قول عبدالله بن أبي بن سلول في حق المسلمين: لئن رجعنا الي المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فأراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقتله, فقال له رسول الله: 'فكيف ياعمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل اصحابه ؟!'(اخرجه البخاري154/6) وجاء في رواية: فذكره للنبي صلي الله عليه وسلم, فأمر أن يؤذن في الناس بالرحيل ليشتغل بعضهم عن بعض( اخرجه عمر بن شيبة في تاريخ المدينة274/1)
فهنا ظهرت حكمته صلي الله عليه وسلم في معالجة الفتنة وإخماد نيرانها قبل أن تشتعل, حيث وجههم إلي الرفق واللين, من أجل أن يخمد الشر قبل أن ينتشر كالنار في الهشيم, ثم امر اصحابه بالرحيل في وقت ليس من عادته الرحيل فيه, ليشغلهم بالترحال عن حديث الفتنة فيئدها في مهدها.
بهذا النظر يجب ان نتحلي بشيء من حكمته صلي الله عليه وسلم في ادارة الازمات وحل المعضلات, ونعلم انه ليس لنا مخرج اوسبيل للخروج من كل ذلك إلا بالامتثال والتحقق بما أمرنا الله تعالي به في حقه صلي الله عليه وسلم, حيث قال سبحانه 'لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا'( الاحزاب:21) فإذا فعلنا ذلك كان نبراسا لنا يهدينا سواء الصراط نحو مستقبل مشرق للامة العربية والاسلامية التي تحاصرها الأزمات وتعتصرها الملمات في وقت حرج تزداد فيه المشكلات من كل حدب وصوب, وتتكالب فيه الشرور علينا كما تتكالب الأكلة علي قصعتها.
--------------------------------------------------------------------------------------------------
بقلم: د. علي جمعة