قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 23، 24].
لما أقام الله – تعالى- الدلائل على ربوبيته وألوهيته أردف ذلك الحديث عن القرآن الكريم والنبي -صلى الله عليه وسلم-، وليست معرفة المؤمن بوحدانية الله إلا بمقدار ما تمثله له عقيدته إيمانًا وفكرًا وشعورًا؛ إذ لا يكفي أن يُوحَّدَ الله باللسان, ويُعبد غيره بلسان الأطماع.
وقد صدّر الله – سبحانه - الآية بجملة شرطية, ومثل هذه الجمل مقصود بها جوابها, ألا وهو التحدي بسورة من أقصر سور القرآن.
والتعبير بـ"إن" وهي لا تدخل في بعض أحوالها إلا على الموهوم, كان ارتيابهم في القرآن وهمًا من الأوهام وإن كان له ظل في مخيلتهم.
وعبر بـ"في" الظرفية ليبين مدى تخبطهم, ويُبْهِم في الحقيقة كـ"لا ريب"؛ لأنه في غير محله، فإذا ارتاب الإنسان فيما هو واضح جلي نُزِّل ذلك منزلة العدم, والريب هو مقدمة الشك, ولأي شيء يرتابون؟! والقرآن ماثل أمام الأبصار والبصائر, يغزوها فيفتح عيونًا عُميًا, وآذانًا صُمًّا وقلوبًا غُلفًا؛ إذ هو مُنزَّل من عند الله, وليس بمخترع يقدر على اختراعه أحد من الإنس أو الجن أو الملائكة.
والتنزيل والإنزال سواء في الهبوط من أعلى إلى أسفل, وفرَّق بعض المفسرين بينهما, فجعل الفعل مضَّعف العين (نزَّل) للتفريق, ولفظ (أنزل) لعدم التفريق, وباستقرائنا للقرآن وجدنا خلاف ذلك, ففي قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ [الفرقان: 32]، فعبروا عن إرادتهم بنزوله جملة بالفعل المضاعف, والمختار أن التضعيف في الفعل المتعدي يُراد به التفريق, وتقول: "قطَّعته أي فرقت أجزاءه"، والتعبير بلفظ ((على)) لبيان خلو المُنزَّل, وأنه جاء للنبي - صلى الله عليه وسلم- من جهة واحدة ومصدر واحد هو الله رب العالمين, لا دخل فيه لأحد سواه.
وعبر عن المُنَزَّل إليه, بأنه عبد لمولاه, والعبد وما ملكت يمينه لسيده, ومن هنا نفقه ما خُيّر فيه -صلى الله عليه وسلم- بين أن يكون ملكًا رسولًا, وبين أن يكون عبدًا رسولًا, فاختار العبودية؛ لأنها أحب صفة إليه, ولأنها تعني منه تفويض كل شيء إلى خالقه. ومن المصادفات السعيدة لي أن يكون مقالي هذا في شهر مولده -صلى الله عليه وسلم-، ففي الجاهلية كان العالم الإنساني يكابد في هيكله المنحل عوامل البِلى من وثنية توبق الروح، وجاهلية توثق العقل, ومادية تُرهق الجسد, وعند ميلاد محمد -صلى الله عليه وسلم- كأنما هتف من الغيب هاتف يقول: ((إنما العبادة لله, والقيادة لرسوله, والسيادة لدينه, والحكم لشريعته, والدنيا للجميع)), ثم انبثق روحه القدسي في مجاهل البدو ومعالم الحضر مبتسمًا كما يبتسم الأمل في قطوب اليأس, وتومض المنارة في ظلام المحيط.
وكأن الطبيعة المشغوفة تنتظر انبثاق الروح المبدع والعمل الإنساني ليملأ العالم نورًا وضياء, ثم كانت الومضات تنعقد هالات مشرقات على شِعب بني هاشم, وكانت الخليقة المؤوفة ترتقب لمعة النور من الشرق, ونفحة القوة من الحق, وكلمة الهدى من الله تجد كل هذا في المولود العظيم الذي استوعبت شخصيته كل ما تميزت به الشخصيات المحيطة به, فلا جرم أن كان قدوة للجميع بإنسانيته ونبوته ورسالته.
فحقيقة النبوة قوة من الوجود في إنسان مُختار, جاءت لتُصلح الوجود الإنساني بدلاتها على النظام بدل الفوضى, وعلى الرُقى بدلًا من الانحطاط، وبالكمال بدلًا من النقص, وبالإشراق الروحي بدلًا من الظلمة المادية، فهو -صلى الله عليه وسلم- مُعجم نفسي حي, وضعته الحكمة الإلهية بعلم من علمها, وقدرة من قَدَرِها, لتتخرج على يده الإنسانية إلى العدل والرحمة والقوة والتقدم في بحر الحياة وعتو أمواجها, فجاهد وكابد, وَعَفَا وأصلح, وما انتقم لنفسه بل حصر غضبه لله لا لسواه، ثم قال تعالى: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة: 23] من مثل القرآن أو من مثل محمد, وهيهات أن يقترب منهما شيء, فضلًا على أن يكون لهما مثل, اللهم إلا أن يكون في خيالهم الجامح الذي لا تضبطه عاطفة, ولا يُقَيده منطق.
فالقرآن الكريم شامخ بتحدّيه, منتظم بألفاظه ومعانيه, آياته مُنزلة من حول العرش, الأرض بها سماء, وهي منها كواكب, أغلقت دونه القلوب, فاقتحم أقفالها, لفظه ومعناه روحان مُتآلفان يتبع كل منهما الآخر صَفَّى اللغة من أكدارها, وأجراها في ظواهرها وبواطنها على حقيقة أسرارها, فجاء بها في ماء الجمان, أملأ من السحاب, وفى تَرَاءَةِ الخلق أجمل من الشباب.
ووجه إعجازه لا يُحَدّ, وكل ما ذكره العلماء من وجوه إعجازه قطرات من بحر لا ساحل له, أعجز العرب بأسلوبه وفصاحته وبلاغته, وأعجز العجم بتشريعه المُحكم ومبادئه الخالدة, وأعجز الجن بأخباره الغيبية, وكأن القرآن -ولم يزل- معجزة تحمل الخلود تخاطب العقل فتقهره, وتحاور القلب فتأسره ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: 37].
وزاد من تحديه أن دعا الناس أن يستعينوا بمن يشاءون, وبما يشاءون من معبوداتهم وسدنتهم إن أرادوا البرهنة على صدقهم في دعواهم, ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: 23], وقد عبر عن منزلة المستعان بهم أنهم ((مِنْ دُونِ اللَّهِ)) فلفظة ((دون)) لا تعني مجرد الغيرية, بل تُضيف إليها انحطاط المنزلة في الدناءة والخسة.
ولأن القرآن من عند علام الغيوب, ذكر ما هو كائن, وما سيكون فقال: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ [البقرة: 24]، وما كان لبشر أن يصل إلى تلك الثقة.
-------------------------------------------
الإستاذ الدكتور/ محمد عبد المنعم القيعي