قد رزق الله نبيه صلى الله عليه وسلم قلباً رقيقاً وحناناً دافقاً فهو صاحب القلب الحنون تكسوه الرحمة وتحركه العاطفة الإيمانية ، أما أهل القلوب القاسية فإنهم لا يعرفون الرحمة وليس للعاطفة في صدورهم مكان إنهم كالحجارة الصماء جفاف في العطاء وبخل بأرق المشاعر . قبََّل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أبناء فاطمة وكان عنده رجل من الأعراب فقال تقبلون أبناءكم ؟! إن عندي عشرة من الولد ما قبلت منهم واحداً فقال صلى الله عليه وسلم وما يدرني لعل الله قد نزع من قلبك الرحمة .
عن أنس رضي الله عنه عنه : (( أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ ابنه إبراهيم فقبَّله وشمه )) البخاري . وهذه الرحمة ليست لأبنائه فقط بل هي عامة لأبناء المسلمين . قالت أسماء بنت عميس زوجة جعفر رضي الله عنها : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بني جعفر فرأيته شمهم وذرفت عيناه فقلت يا رسول الله أبلغك عن جعفر شئ ؟ قال : " نعم قتل اليوم " فقمنا نبكي ، ورجع فقال : " اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد جاء ما يشغلهم " الترمذي وابن ماجه.
ولما كانت عيناه صلى الله عليه وسلم تفيض لموتهم سأله سعد بن عبادة رضي الله عنه : يا رسول الله ما هذا؟ فيقول صلى الله عليه وسلم : " هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده ، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء " البخاري .
وعندما ذرفت عيناه صلى الله عليه وسلم لوفاة ابنه إبراهيم قال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : وأنت يا رسول الله ؟ فقال: " يا ابن عوف ، إنها رحمة لمن اتبعها بأخرى " وقال : " إن العين تدمع، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون " البخاري .
وقد بلغ من رأفته ورحمته أن يصعد الصبي على ظهره وهو ساجد يصلي بالناس فيطيل السجود مخافة أن يعجل الصبي عن عبد الله بن شداد عن أبيه رضي الله عنه قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في احدى صلاتي العشاء وهو حامل حسناً أو حسيناً فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه ثم كبر للصلاة فصلى فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها قال أبي : فرفعت رأسي وإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فرجعت إلى سجودي فلما قضى رسول الله الصلاة قال الناس يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك ؟ قال : " كل ذلك لم يكن ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته " النسائي وكان صلى الله عليه وسلم يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم فإذا سجد وضعها وإذا قام رفعها .
وبلغت رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته أنه يخفف الصلاة بسبب بكاء طفل مراعاة لحال أمه . عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأدخل في الصلاة وإني أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم لوجد أمه ببكائه " ابن ماجه.
هذا الخلق العظيم مع الصغار يدعونا إلى التأسي به صلى الله عليه وسلم و أن نسير على خطاه في وقت فقدنا فيه الإحساس بمحبة الصغار وإنزالهم منزلتهم فهم الرجال غداً وآباء المستقبل وفجر الأمة المنتظر ، تعاملنا مع الأطفال بشئ أقرب إلى التعالي والكبرياء حتى في المسجد ننهرهم ونؤخرهم ولا نعتبر أحاسيسهم ، إن الأطفال لهم أحاسيس ومشاعر ورغبات وأهواء لا بد من إشباعها لتنطبع قلوبهم بالمحبة والإجلال ، المصطفى صلى الله عليه وسلم ملك بأسلوبه الرائع قلوب الأطفال فأصبحت كلماته وتعليماته تنطبع في قلوبهم مباشرة ، إنه صلى الله عليه وسلم ملك مفاتيح قلوبهم بيده ولسانه . حتى أصبح الصبي يحبه ويجله ويقدره وهو صلى الله عليه وسلم ينزل الناشئة منزلة رفيعة . " يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ... " " يا غلام سم الله "
كان صلى الله عليه وسلم إذا مر بهم وهم يلعبون سلم عليهم ورب مازحهم ، وإذا مر بهم على بغلته أركبهم معه .
إن للأطفال مشقتهم وتعبهم وكثرة حركتهم إلا أن القدوة عليه السلام لا يغضب ولا ينهر الصغير ولا يعاتبه ، كان يأخذ بمجامع الرفق وزمام السكينة . عن عائشة رضي الله عنه قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى بالصبيان فيدعو لهم فأُتي بصبي فبال على ثوبه فدعا بماء فأتبعه إياه ولم يغسله ) . إن الأطفال ليكونوا رجالاً بحاجة إلى يد حانية ترحم وتربي ولكي تكون التربية مؤثرة لا بد أن نشعر أبناءنا بالرجولة والاهتمام بهم وأن نتحمل أخطاءهم لأن هذا أقرب لتربيتهم وكسب قلوبهم . إن صغارنا يحتاجون منا أن ننزل من كبرياء شموخنا المزعوم وأن نبتعد عن الألفاظ البذيئة التي تهدم ولا تبني وإذا أدبنا يجب أن يكون ذلك التأديب مدروساً . الصغار لهم اهتماماتهم ولهم حياتهم فمن الخطأ أن نسعى إلى مصادرة ذلك أو نهمش ذلك الدور . الواجب أن ندرك أن هذا الشئ يعني الكثير للأطفال فلا بد إذً أن نلبي هذه الرغبة وأن نشبعها . فهل مازحنا صغارنا وهل سمعنا ضحكاتهم وجميل عباراتهم وبادلناهم شعوراً مماثلاً . يحسسهم بالحب والحنان والشفقة أم أشغلتنا أمور الحياة عنهم . فنبي هذه الأمة وقائدها كان يفعل ذلك . فكان يداعب الصغار ويمازحهم .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُدلع لسانه للحسن بن علي ، فيرى الصبي حمرة لسانه فيهش له )) الصحيحة 70 وعن أنس رضي الله عنه قال : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاعب زينب بنت أم سلمة وهو يقول : " يا زُوينب ، يازوينب مراراً )) الصحيحة 2141 وعن محمود بن الربيع رضي الله عنه قال : (( عقلت من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي من دلو من بئر كانت في دارنا وأنا ابن خمس سنين )) مسلم .
نسوق هذه السيرة العطرة لعلنا نحيي بها قلوبنا ونقتفي أثرها ، فبيوتنا تُزهر بالصغار والأطفال الذين يحتاجون إلى حنان الأبوة وعاطفة الأمومة وإدخال السرور على قلوبهم الصغيرة . .. فينشأ الصغير سوي العاطفة سوي الخلق يقود أمة عند ما يصبح رجلاً ــ بإذن الله ــ صنعه الرجال والأمهات بعد توفيق الله تعالى .
ولقد عاش الخدم في بيت رسول الله عيشة السعداء فهاهو يقرر حقيقة هامة في هذا الجانب لينطلق الناس على ضوئها في التعامل مع الخدم ومن تحت أيديهم من العمالة يقول صلى الله عليه وسلم : " هم إخوانكم ، جعلهم الله تحت أيديكم ، فأطعموهم مما تأكلون ، وألبسوهم مما تلبسون ، ولا تكلفوهم ما يغلبهم ، فإن كلفتموهم فأعينوهم " مسلم .
ثم نتأمل في خادم يروي عن مخدومه كلاماً عجيباً ويثني ثناء عطراً . عن أنس رضي الله عنه قال : " خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط ، وما قال لي لشئ صنعته لِمَ صنعته ؟ ولا لشئ تركته " مسلم .
عشر سنوات كاملة ليست أياماً ولا شهوراً إنه عمر طويل فيه تقلبات النفس واضطرابها ومع هذا لم ينهره ولم يزجره بل كان يكافئه ويطيب خاطره ويلبي حاجته وحاجة أهله ويدعو لهم . قال أنس رضي الله عنه قالت أمي : يا رسول الله خادمك ادع الله له فقال : " اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته " البخاري
إنه ليس من الشجاعة ولا من القوة ولا من الشهامة أن يظلم الإنسان من تحت يده من خدم أو عمال أو يتسلط عليهم بيده أو لسانه أو يهينهم تحت رحمة الحاجة التي جلبتهم من بلادهم . في الحكمة : إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك . إن هناك صوراً من الظلم والإهانة يعج بها المجتمع في تعامله مع الخدم والعمال صوراً بعيدة عن العدل والإنصاف فالإمام القدوة عليه الصلاة والسلام نهجه واضح في ذلك وتعليمه بين في هذا الأمر . رسول الله مع شجاعته لم يُهن ولم يضرب إلا في حق ، ولم يتسلط على الضعفاء الذين تحت يده من زوجة وخادم .
عن عائشة رضي الله عنها قالت : (( ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ، ولا ضرب خادماً ولا زوجة )) مسلم .بل كان ينادي بالرفق والأناة والحُلُم :" إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله " متفق عليه .
هذا الإمام القائد وسع وقته وصدره جميع الأمة ولم يكن يترفع عن أي فرد في الأمة ، يتواضع لتلك المرأة المسكينة ويمنحها من وقته الملئ بالأعمال . فعن أنس رضي الله عنه قال : (( أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له : ( إن لي إليك حاجة فقال : " اجلسي في أي طريق المدينة شئت أجلس إليك " أبو داود . وكان من تواضعه الذي بلغ الغاية أنه كان يقول : " لو دعيت إلى ذراع أو كُراع لأجبت ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت " البخاري .
هذا هو نبي الله خير من أقلته الغبراء وأظلته الخضراء ، الذي بلغ السؤدد والمكانة العالية كان دائم الإخبات والإنابة إلى ربه شديد الانكسار بين يديه :
يروح بأرواح المحامد حُسنُها **** فيرقى بها في ساميات المفاخر .
وإن فُض في الأكوان مسكُ ختامها **** تعطر منها كلُّ نجد وغـــائر .
فأين المتكبرون المتغطرسون ؟!! من هذه السيرة العطرة . ولهؤلاء في كل عصر وحين . يبقى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجزاً ورادعاً لكبرهم واستعلائهم . عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر " مسلم .