جاءت الشريعة الإسلامية بمدح التجديد, وبيان أهميته, بل إن نصوص الشرع الشريف نفسها تؤكد ذلك المعني, فتارة يحدثنا الشرع الشريف عن التجديد باعتباره أمرا واجب التنفيذ. ويحث عليه المسلمين,
وذلك في مقام الإيمان, فإن الإيمان نفسه يبلي ويخلق ويحتاج إلي أن يجدد في قلوب الموحدين, وذلك في قول النبي لأصحابه جددوا إيمانكم, قيل يا رسول الله: وكيف نجدد إيماننا؟, قال: أكثروا من قول لا إله إلا الله( مسند أحمد327/14, ومستدرك الحاكم285/4).
وتارة يحدثنا الشرع عن التجديد في الدين علي أنه نعمة يمن الله بها علي هذه الأمة الخاتمة, ومن هذا قول النبي: إن الله يبعث إلي هذه الأمة علي رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها( سنن أبي داود109/4, ومستدرك الحاكم567/4).
منذ ذلك الحين وعلماء الأمة يمتدحون التجديد, ويرون أنه أمر ديني ونعمة من نعم الله علينا, والتجديد لم يكن قط موضع اتهام وريب في العصور السابقة, لذلك ظل تجديد الخطاب الديني موجودا وحاضرا في الغالب طول تاريخ الإسلام, كل زمن حسب مقتضياته وأدواته, وطبقا لظروفه, وأحواله, وذلك ما جعل هذا الدين صالحا لكل زمان ومكان, حتي أظلنا العصر الحاضر فصارت لمصطلح التجديد دلالات سلبية عند كثير من الملتزمين التراثيين لما شاع عندهم من أن التجديد معناه التفلت من تكاليف الشرع كلها أو بعضها, أو الأخذ بالشاذ من الأقوال ومخالفة ما استقر عليه العلماء المخلصون, أو أن المراد من التجديد هو الانتقاء من النصوص الشرعية, ما يتفق والأهواء والمصالح الشخصية, أو أن التجديد يشمل الثوابت والمتغيرات, لكل ذلك شاع عند العامة من المتدينين تلك السمعة السيئة عن التجديد وأهله ودعاته, وواجه علماء الإسلام المخلصون في دعوتهم للتجديد أشد الصعوبات في بيان ما يقصدونه من كلمة التجديد.
وحتي نزيل ذلك اللبس من نفوس المتخوفين نقول إن لفظ التجديد ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية بمعني البعث والإحياء والإعادة, وليس بمعني الإنشاء والخلق, وهذا ما أثبتته التجربة التاريخية عند علماء المسلمين, حيث نجد فطنة الإمام الغزالي وبراعته حين رأي أن الفقه قد انفصل عن المقاصد النفسية والشعورية التي تدعو المؤمن للتقوي والخشوع والورع إلي عبادة الله بعد أن غفل الفقه عن هذا وخلا منه وأصبح جسدا بلا روح وشكلا بلا مضمون عكف علي الخروج من هذه الحالة بتجديد علوم الدين والرجوع بالخلق إلي مقصود الشرع منهم, وهو عبادة الله عز وجل, وعمارة الأرض, وتزكية النفس, فألف كتابه الماتع إحياء علوم الدين مع ما في كلمة إحياء من دلالة تؤيد ما نقصده من تجديد الخطاب الديني, وهو أننا نعني به تجديد القوالب, والوسائل التي نعرض فيها الفقه الإسلامي بمعناه الشرعي والحضاري, وهو ما نسميه إدراك الواقع ونستدل بهذا علي أن الفهم في النصوص متجدد, ولا يكون كذلك إلا عن طريق أدوات الفهم الواردة في التراث مع ما يقتضيه الواقع من متغيرات وتعقيدات.
إن واجب الوقت يحتم علينا أن نقتدي بما فعله الأعلام المسلمون علي مر التاريخ في قضايا التجديد, وأن نراعي أنهم التزموا بضوابط كثيرة ينبغي علينا أن نتأملها وأن نتدبرها وأن نجرد ما فيها من معان, وأن نحولها إلي مناهج متبعة حتي ولو تجاوزنا بها أزمانهم ومسائلهم التي كانت تشغل بالهم أو التي كانت محل نزاعهم وجدالهم, لأن هذا لا يعنينا كثيرا أن نقف عند مسائل كل عصر فإن لكل عصر واجبا, وينبغي علينا أن ندرك واجب عصرنا ونعيش فيه وله وبه, ومن الممكن أن نستفيد من مناهجهم دون أن نقف عند مسائلهم.
وحتي تؤتي عملية التجديد ثمارها لابد من توافر شروط في كل من التجديد والمجددين, أما التجديد فيجب مراعاة المزج بين ثلاثة عناصر في التراث الإسلامي, وهي: المصادر, وإدراك المصادر في ظل الواقع, وربط المصادر بالواقع.
فمن حيث المصادر فالقرآن والسنة مصدران معصومان, وهناك مصادر أخري كباقي أدلة الفقه المعتبرة كالإجماع والقياس والمصالح المرسلة وهناك مصادر تعد التطبيق العملي لاستنباط الأحكام من هذه المصادر, وهي التراث الفقهي الموروث. فالمجدد يضع هذه المصادر أمامه ولا تغيب عنه في أثناء قيامه بعملية التجديد, وكذلك عليه ألا يغيب عن الواقع, وهو العنصر الثاني المتمثل في إدراك المصادر في ظل الواقع بعوالمه الأربع التي تتغير بها الفتاوي والأحكام, وهي: عالم الزمان والمكان والأشخاص والأحوال. والعنصر الثالث ـ وهو الأهم ـ الربط بين المصادر, وإدراكها, وإدراك الواقع, حتي لا يوقع المجتهد كلاما مكتوبا في الكتب علي واقع قد تغير تغيرا شديدا, ولم يعد هو المذكور في الكتب, وهو ما سماه الإمام القرافي ضلال مبين ومن يفعله ضال مضل.
وأما من حيث شروط المجددين فالمحققون من العلماء رأوا أن المجدد الوارد في الحديث النبوي لا يختص بفرد وإنما قد يكون جماعة, ولعل ما ذهبوا إليه لا ينطبق علي عصر كما ينطبق علي عصرنا الذي كثرت فيه التخصصات وتعددت فيه الرؤي والثقافات, وتلاحمت فيه دول العالم عن طريق التقنيات الحديثة المتمثلة في ثورة المعلومات ودقة وسائل المواصلات والاتصالات بجوانبها المختلفة, ولذلك فالتجديد لا يقوم بأعبائه شخص واحد أو عدد قليل من المجتهدين, وإنما تقوم به المؤسسات العلمية كل في تخصصه, علي أن يتم ذلك في تعاون وتكامل مع المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي, وفي مقدمتها الأزهر الشريف الذي كان له قصب السبق في هذا الميدان منذ إنشائه في القرن الرابع الهجري حتي يومنا هذا, خاصة مع ما يتمتع به من سمة طيبة ووسطية واعتدال وتوازن وانفتاح علي كل من يريد الخير والنفع للإنسان والكون والحياة.
بقلم: د. علي جمعة