Mohammed Ali عضو الماسي
| موضوع: حقائق سافرة: الأزهر والسلام الديني الإثنين أبريل 11, 2011 7:30 am | |
| رددت بعض الصحف اليومية قولا قديما للكاتب الفرنسي "موريس جودفري دي مويين" يذهب فيه إلى أن الأزهر بمصر لا يسهم إيجابيًّا في السلام الديني! وأنا أعرف أن صاحب هذا القول المسرف قد أصدر كتابًا سمّاه "النظم الإسلامية" حشاه بأخطاء كثيرة نسبها إلى الإسلام خطلا دون صواب، فإذا نسب للأزهر هذا الرأي الجائر فليس من المستغرب؛ لأن من المستغرب فعلا أن ينصف الأزهر من لا ينصف الإسلام.
وواضح أن الأزهر يمثل الإسلام في كلّ رأي يبديه، فإذا دعا الإسلام إلى السلام الديني، فهي الدعوة التي يحتضنها الأزهر ويلتزمها أيّ التزام، وليس رأي الإسلام في السلام الديني بعيدًا عن كاتب يعالج شؤون المسيحية والإسلام في باريس، وينقل عن الإمام محمد عبده -رضي الله عنه- آراء كثيرة سردها في كتاب "الإسلام والنصرانية" كما يعرف سلفًا ما كتبه الأستاذ الإمام في ردّه على المسيو هانوتو مبينًا دعوة الإسلام إلى السلام ومؤاخاة العلم، واحترام الرأي المخالف! فيالله كيف يتحدث مؤلف النظم الإسلامية حديث من لا يعرف الإسلام، وقد تفرغ للبحث عن الشؤون الإسلامية حتى عُدَّ متخصصًا فيما لدى معشره، وها هو ذا يتحدث عن الأزهر دون دراية، ولا نَعْذُره في خطئه المغرض؛ لأن رأي الأزهر في السلام الديني ذائع مشتهر في أوروبا وأمريكا أذاعه شيخه الأكبر الإمام محمد مصطفى المراغي في مؤتمر الأديان ببروكسل عام 1936، وأذاعه في باريس عالم من ألمع علماء الأزهر ونابغيه وهو الأستاذ الدكتور محمد عبد الله دراز في مؤتمر الأديان سنة 1939، وما زال ممثلو الأزهر يعلنون في كل مؤتمر يلتمس فيه النفع، أفتكون محاضرات مؤتمر الأديان في باريس بعيدة عن كاتب متخصّص، يتحدث عن الشؤون الإسلامية، ويفرد المؤلفات الخاصة بها، ثم لا يأذن لنفسه أن يلتفت إلى ما يدور حول تخصصه العلمي في وطنه، بل إلى ما قيل في أمور يتصدى للبحث عنها مصدرًا رأيه النهائي؟!
وإذا كان ما قيل عن السلام الديني والأزهر مِمَّا لا يقنعه فلماذا لا يرد عليه بالمنطق الصّائب لنعرف أن للرجل أبعادًا شاسعة يجهلها الباحثون، أمّا أن يصدر الحكم عاريًا من أسبابه، وغافلا عما قاله الفاقهون بشأنه فهذا هو الجور الصريح.
وقد يكون من المفيد أن نلقي بعض الضوء على ما قاله الإمام المراغي، والدكتور دراز في موقفيْهما الجهيريْن؛ لأن ما قالاه منذ أكثر من أربعين عامًا يدل على أنّ الأزهر لا يلبس أردية مختلفة تتنوع وفق الاتجاهات المتعارضة، بل يلتزم بمنطق الإسلام في مواجهة الأحداث، وآية ذلك أن رجال الأزهر اليوم يقولون عن اعتقاد ما قاله أسلافهم الفاقهون، لا لأنّ الّلاحق يقلد السالف، بل لأن المصدر واحد لا يختلف وهو القرآن الكريم.
2
انتشر التبشير بمصر في الثلاثينيات انتشارًا أساء إلى القائمين به ممّن لا يراعون حرية العقيدة في بلد إسلامي يرعى روابط الإنسانية والوطنية، وبحثت الهيئات الإسلامية أسباب هذا الاعتداء الصارخ على حريات المعتقدين وفي مقدمتها مشيخة الأزهر فأدركت أصابع الاستعمار المحركة للمهزلة المنكرة من وراء ستار، فانبرت الأقلام المؤمنة تفضح ما استتر من الدسائس، وتدين قومًا يتظاهرون في الخارج بالدعوة إلى سلام الأديان، ويقيمون المؤتمرات الداعية لهذا السلام.
ثم جاءت الدعوة إلى شيخ الأزهر ليمثّل الإسلام في مؤتمر بروكسل.
ولو كان الأستاذ الأكبر أسير عاطفته الشخصية وحدها لرفض الدعوة من قوم ينضم إليهم من يكيد في الباطن، ويتظاهر بالمودّة في العلن، ولكنّ الإمام المراغي قد اهتبل الفرصة؛ ليدعو باسم الأزهر إلى سلام ديني حقيقي، وليوجد أرضًا مشتركة يقف عليها دعاة الأديان المختلفة غير متنابذين، وهو في ذلك يصدر عن دينٍ أمر دعاته أن يهدوا الإنسانية بالحكمة والموعظة الحسنة، فإذا كان جدال فبالتي هي أحسن، وقد استعان الأستاذ الأكبر بثقافة العصر الحضارية، ومقررات العلوم الإنسانية حين أشار في بدء كلمته إلى أن فكرة الزمالة بين المتدينين فكرة طبيعية، وهي ليست نظرية فلسفيّة بل حاجة ضرورية تولدت في النوع البشري، ومع الشعور بهذه الزمالة، فإن أسباب التفرق أيْضًا لها موجباتها الضرورية؛ إذ إن الإنسان لا يسير بالعقل وحده حتى تنحسم أموره مع المخالفين على وجه حاسم صريح، ولكنه يخضع لغرائز قاهرة تضطره إلى مجانبة المنطق في بعض الأحيان؛ ولذلك كان الإخاء الإنساني العالمي أمرًا ميؤوسًا منه ما دامت هناك شهوات تمليها الغريزة، ولن يقدر التقدم العلمي على التغلب على هذه الشهوات المتأصلة، وإذا أمكن بعامل من العوامل أنْ تخبو جذوة تلك النار المنبعثة من قوى الطبيعة في الإنسان فإنه لا يمكن أن تنطفئ تلك النار.
والتدين -في رأي الأستاذ الأكبر- أصيل في كل نفس، ولا يحجبه إلا غشاوات عارضة تنقشع أمام النظر البصير وفي هذا التدين ما يهبط بقوى الغرائز الهائجة، فيخفف من شرورها الكثيرة، فالشعور الديني إذا عمق وتأصّل فلَّ من أسلحة الأنانية والتجبر، ورفع الإنسان إلى ما فوق الاعتزاز باللّون والدم والجاه والطبقة، ودعا إلى طمأنينة وسكينة تهونان الرزايا والأحزان، وبعد أن تحدث الإمام المراغي في مرارة عما ارتكب من المآسي بسبب الخلافات الدينية، والدين منها براء، عمد إلى إيضاح رأي الإسلام في السلام الديني فقال(1).
- اقتباس :
- وهذا ما جعل اغتباطي بهذا المؤتمر عظيمًا، فإنه فضلا عن سعيه للبحث عن الوسائل الموصلة لتحقيق المثل العليا للإنسانية، وهي الزمالة العالمية بين أفراد النوع الإنساني وأممه، فإنه بهذا السعي يحقق غرضًا أساسيًّا من الأغراض التي سعت إليها الأديان، وعُنِيَ بها الإسلام الذي أدين به، فقد نبه القرآن إلى وحدة الأبوين الموجبة للتعارف والتعاون والتناصر، والمبعدة عن التناكر والاختلاف، ولم يقم وزنًا لشرف المولد، وكرم الجنس ووضع معيارًا للتفاضل لم يعرفه الناس من قبل، وهو تقوى الله، وفي القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا* إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، وفي القرآن الكريم: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
ثم تحدث الإمام المراغي عن الزمالة المنشودة بين رجال الدين، داعيًا إلى الوئام الحقيقي، وقد اضطر إلى أن يدين في وضوح ما يرتكبه المبشرون من منكرات حين يلجئون إلى ديار الإسلام، لِيُغْروا الضعفاء بالمال والمنصب والعقار كي يتركوا دينهم دون إقناع منطقي، ثم وضع النقط على الحروف حين قال:
ومما يثير العجب ويضاعف الألم أن أهل الأديان يحشدون جهودهم لمقاتلة بعضهم بعضًا مقاتلة أسرفوا فيها وجعلتهم ضعفاء أمام عدوهم المشترك، وسلكوا طرقًا في التناحر مخالفة لأبسط قواعد المنطق، مما جعلهم سخرية أمام العلماء والفلاسفة، وجعل كل جهودهم عقيمة النتائج، فقد تركوا التأثير على الإنسان من ناحية عقله الذي هو موضع الشرف، وموطن العزة والكرامة، واستعملوا طرق الإكراه والإغراء بالمال وغيره من الوسائل، وركن بعضهم إلى القوى المادية للدول، وقد نسوا أن الإيمان لا يحل القلب بالإكراه، وأن العلم لا ينال إلا بالدليل، ونسوا أن العدو جادٌّ في إنزالهم من مكانهم اللائق بهم، وأن شرور العالم تغمر الإنسانية وتطغى على ما بقي في النفوس من هيبة واحترام للنظم الإلهية، وكان عليهم بدل ذلك كله أن يتعاونوا على درء الخطر، وأن يحاربوا هذه الشهوات الجامحة وهذه الإباحية التي يئن منها العقلاء(2).
ثم ختم الأستاذ الأكبر كلمته باقتراحات هادفة تدعو إلى تنمية الشعور الديني من الضغائن والأحقاد، وتوجيه الوعظ الديني إلى الطريق الإنساني المجمّع لا المفرق، وجعل الدعاية الدينيّة قائمة على أساس عقلي محض يدعمه حب الحقيقة، واستشهد بما يؤيد فكره الناصح بأصول إسلامية من آيات القرآن مثل قوله تعالى: {[color=blue]أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}، وقوله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}.
وقد قوبلت كلمة الإمام المراغي بما هي جديرة به من الاحتفاء، وليس لمدعٍ بعدها أن يعلن أن الأزهر يقف في وجه السلام الديني تخرصًا دون برهان.
3
أما الدكتور محمد عبد الله دراز -رحمه الله- فإن قراءه الكثيرين يعرفونه بإصابة القول وجزالته وجدّته، وأشهد أنه ما قرأ له عارفوه مقالا أو كتابًا أو استمعوا إلى محاضرة علمية من محاضراته إلّا انتفعوا بالجيد الطريف الزاهر، فَهُمْ في دوحة مورقة ذات ثمر وظلّ ونسيم، وقد أحسن الأزهر اختياره؛ ليمثل شيخه الأكبر في مؤتمر الأديان بباريس حين انعقد سنة 1939، فألقى محاضرة هادفة قال عنها السير فرنسيس رئيس المؤتمر: إنّ كلمة الأزهر هي الكلمة الرئيسة، وقد وافق الحاضرون بالإجماع على اقتراحين قدمهما الشيخ دراز للمؤتمر فكان فوزه الباهر فوزًا للسلام الحقيقي كما ينادي به مسلم داعية غيور، وقد بدأ الدكتور محاضرته متسائلا عن سرّ العداوة والشحناء اللتين تعمان عالم اليوم، وألمح إلى أثر الماديّة في التزاحم على الاستلاب والغزو والاستعمار، وقد رأى في الدين مرفأ النجاة، وهو يعلم أن رجال الدين يتنازعون كما يتنازع الماديون، وقد أعمل فكره؛ ليجمعهم في جبهة واحدة ينتفي معها النزاع، وقال في توضيح ذلك(3):
- اقتباس :
- "غير أَنَّا إذا رجعنا إلى الأديان نلتمس منها المعونة، هالنا ما نراه من اختلافها اختلافًا ظالمًا كان من أسباب الخصومات والحروب بدل أن يساعد على حسن التفاهم والتقريب بين القلوب، فهل نستطيع أن نجد من وراء هذا الاختلاف وحدة مشتركة في المبادئ والمطامح تصلح أن تكون محورًا لتقرير السلام بين معتنقيها، وتسهيل تعاونهم على الخير المشترك للجميع، هذه هي النقطة الأساسية التي تدور عليها أعمال المؤتمر، وهذا هو الإشكال الذي يحاول المؤتمر أن يجد له حلًّا.
أما أنا –أي الشيخ دراز- فأميل إلى أن يكون الحل على أساس الفصل في الأديان بين ناحيتها الاجتماعية، وبين نواحيها الأخرى، وأعتقد أن افتراق الأديان في عقائدها وشعائرها وكثير من تعاليمها لا يمنع أن تلتقي من الوجهة الخلقية عند قاعدة واحدة هي أساس التعاون المطلوب، وذلك أنها كلها تأمر بالعدل والإحسان، وتنهى عن الظلم والعدوان، وكلها تسوّي في هذه المعاملة الدنيوية بين أتباعها وبين أعدائها".
لقد نادى الأستاذ إذن بالحلّ العملي، بعيدًا عن الغوص الجدلي في مشكلات لا تصل إلى نتائج، وبعيدًا عن التظاهر بالعمق النظري تظاهرًا يعود على القائل بالمباهاة دون أن يفيد المجتمع الإنساني شيئًا ذا بال، وقد ساعد الأستاذ اطلاعه المقارن الشامل على أن يتحدث عن الديانات المختلفة من هندية وبوذية ويهودية ومسيحية وإسلامية حديثًا واعيًا بصيرًا ليأخذ من كل دين دعوته إلى السلم المتسامح فيعتدها حجر الزاوية في لقاء هذه الأديان، وكان من الطبيعي أن يفضل رأي الإسلام نظريًّا وعمليًّا في قضية السلام العالمي فيرى أن دعوة الإسلام إلى الائتلاف قد قامت من الناحية النظرية على دعامتين أولاهما: من طريق توحيد الغاية وذلك بدعوة الناس جميعًا إلى عبادة رب واحد.
وثانيتهما: من طريق التوفيق بين وسائل هذه الغاية حين أرجع القرآن الكريم الشرائع السماوية إلى أصل واحد، ودعا إلى الإيمان بجميع الرسل والأنبياء وكتبهم المنزّلة: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}، بل إن الإسلام نفسه –في اصطلاح القرآن الكريم- اسم مشترك يضعه كتاب الله على لسان أنبياء الله قبل محمد، فيقول في شأن إبراهيم: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، ويقول في شأن يعقوب: {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}، ومضى الباحث يستعرض نظائر هذه الآيات.
أما الوجهة العملية، فالإسلام قد حذر من مناوشة مخالفيه أو مضايقتهم ما داموا مسالمين، فإذا تركوا السلم إلى الحرب فإن الإسلام يدعو إلى إعداد القوة دون أن يغفل الإنصات إلى دعوة المهادنة حيث تثمر خيرها دون عنت وإرهاق، فإذا لم تثمر وئامًا يحفظ الأرواح كان على المحارب المسلم أن يحصر القتال في أضيق نطاق يقول الله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}...(4).
وفي ختام كلمته البارعة استخلص الأستاذ نتائج ثلاثًا تنحصر في أن الأديان -أولا- يجب من الآن أن تكون سبب وفاق ووئام لا مدعاة نزاع وخصام، كما أن السبب -ثانيًا- في الخصومات الدينية هو الانحراف عن الدين لا اتباعه، أما العلاج الحتمي -ثالثًا- فهو العناية بين رجال الأديان جميعًا بالجانب الخلقي العام؛ لتنمو العاطفة الدينية لدى المتدينين جميعًا فيعيشون في سلام.
هذا بعض ما يمكن تلخيصه من كلمة الدكتور دراز، فإذا ضُمّت إلى كلمة الإمام المراغي، وقد ترجمتا معًا إلى الفرنسية ووزعتا على المؤتمرين من شتى ممثلي الأديان في الشعوب والقارات، فليس لأحد من المتحدثين عن الأزهر أن يصمه بمجافاة السّلام، بل إن المنصف ليقدّر لممثليه تسامحهم الإنساني حين أغضوا عن اتهام خصومهم بما ارتكبوه في ديار الإسلام شرقًا وغربًا من اعتداء صارخ على الحرية الدينيّة، وفي وسعهم أن يستشهدوا بما ذكرته الصحف الأوروبية نفسها من هذه الفظائع المخجلة؛ لأن الحق لا يعدم أنصاره حتى من بين مناوئيه، ولكنّ داعيتي الأزهر قد أسدلا الستار على ما كان، طمعًا في أن يميل الميزان إلى الاعتدال، وارتقابًا ليومٍ تنفع فيه النصيحة المخلصة، والدعوة الصادقة فتغني عن عناء كثير
4
وبعد،
أفيكفي في وقتنا العصيب أن يكون السلام بين الأديان هو المطمح الأمثل، أم يجب أن نمتد بالسلام السلبي إلى تعاون إيجابي أمام ما يتهدد الإيمان من خطر شيوعي يزحف إلى كل مكان؟!
إن الذين ينكرون عالم الغيب مرتكنين على شُبَهٍ تتسم بسمات العلم دون أن تؤسس على يقين جازم، في حاجة إلى من يعارضهم بسلاح العلم نفسه؛ ليثبت أن الإيمان بالله حقيقة مكينة، لها أثرها الحيّ في طمأنة النفوس، وبُعدها عن الهواجس المريبة ذات الفزع والاضطراب، ثم إن دعاة الإلحاد يجدون طريقهم سهلا هينًا؛ لأنهم ينفون كلّ التزام جزائي في ارتكاب الموبقات، إذا لم يقدّر لها أن تذاع على ملأ من الناس، والنفوس بطبيعتها تميل إلى التحلّل من القيود، فهي إلى دعوات التحلل أسهل مَقَادَةً وألين عريكة مما يجعل الماديين يسبحون مع التيار العام، أما دعاة الإيمان فيحاولون إقامة السدود المنيعة أمام الأهواء، ويدعون إلى قوة الإرادة وشدة الحسم نفوسًا يسوؤها أن تكبح بلجام، فطريقهم شاق وعر وعليهم أن يتعاونوا متساندين لِيُعلوا كلمة الله، وإذا كنا نرى دعوات الإلحاد تمتد وتتّسع بحيث تحتل معاقل جديدة على فترات متعاقبة، فإننا نهيب برجال الأديان أن يحموا أوطانهم من الزحف الراصد، وإذا كنّا بالأمس نركن إلى الإغضاء عمن يحاربون الإيمان استخفافًا بأثرهم فقد أثبتت الأيام أنهم يتقدمون وراء خطة مدروسة، ويقفون جميعًا متأهبين للانقضاض، ولن تندحر جموعهم إلا إذا قوبلت بإعصار كاسح يستأصل الجذور الثابتة في الأرض، ويضع مكانها بذور الحب والإيمان.
-----------------------------------
1- مجلة الأزهر، المجلد السابع ص304.
2- المرجع السابق ص308.
3- مجلة الأزهر، المجلد العاشر ص533.
4- مجلة الأزهر، المجلد العاشر ص537
-----------------------------------
الموضوع: حقائق سافرة: الأزهر والسلام الديني. الدكتور/ محمد رجب البيومي مصدرها: مجلة الأزهر: ربيع الأول 1399هـ، فبراير 1979م | |
|