لكي أستكشف عناصر الرؤية التراثية للكون والوجود والإنسان والحياة، أحتاج أن أقوم برحلة في العقلية التراثية: عقلية الماوردي والجويني والغزالي والنووي وابن تيميه وابن حجر، والسيوطي ...الخ، هؤلاء الذين عاشوا في الزمن التراثي، والذين حازوا –ولابد- أدوات لفهم القرآن والسُّنَّة، وأيضًا حازوا رؤى معينة للعالم الخارجي.
تتلخّص رؤية منتجي التراث للعالم الخارجي في عناصر معينة، وذلك بصرف النظر عن مصادرها؛ لأن مصادرها شديدة التركيب: بعضها من العقائد الإيمانية، وبعضها مستقًى من مطلق التأمل والتفكّر في الكون والأشياء وما وراءها، أو من خلاصة الفلسفة القديمة، أو من الاختلاط بحضارات أخرى تداخلت مع حضارة المسلمين كالهندية والصينية والفرعونية والفينيقية والآشورية والبابلية... وأخيرًا الحضارة اليونانية بتنوعاتها، دون الوقوف فقط عند مدرسة أرسطو الأكثر شهرة- حيث كانت ثمة مجموعة كبيرة من الأفكار التي وردت عن أمثال فيثاغورث وسوفوكليس وسقراط وأفلاطون وغيرهم.
وهذا الترتيب للمصادر ليس مقصودًا بالضرورة، إنما ذكرتها لبيان أن هناك مصادر أخرى غير المصدر الأرسطىّ الذي عدّه البعض هو كل شيء أو المصدر الأوحد، وليس الأمر كذلك، فقد تعامل المسلمون مع هذا المنطق الأرسطىّ بالحذف والإضافة، ومع مصادر أخرى.
ومن الصعب -حتى عند أهل التراث- أن نتبيّن - بالضبط- من أين أتت عناصر الرؤية الكونية؛ لأنها قد تأتي من أحد هذه المصادر أو من تفاعلها فيما بينها.. وأعتقد أن البحث فيها ليس مجديًا في هذا المقام؛ حيث نركز أساسًا على مكونات الرؤية نفسها لا على مصادرها!
على كل حالٍ نعود لنتساءل: كيف كانت هذه الرؤية التراثية؟!
هذه الرؤية هي التي عُني بها علم الكلام، وخلاصتها أنها كانت ترى هذا الوجود إما متحيّزًا أو غير متحيّز: والمتحيّز-لغةّ- إما أن يكون المائل المنصرف إلى جانب دون آخر، وإما أنه كل ما له حدود أو يشغل حيّزًا. والمتحيّز- في هذه الرؤية- إما بسيط ويسمى "جوهرًا"، أو مركَّب ويسمى "جسمًا".
فالجسم -مثلًا- كجسم الكائن الحي المركّب من عدة خلايا، بينما ما يمثل الجوهر هو الخلية الوحيدة أو المنفردة. فالجوهر هو أقل حالات المتحيّز، وكانوا يسمونه "الجوهر الفرد"؛ لأنه لا يقبل القسمة، ولو انقسم فنيَ ..وهذا ما تبنتّه الكثير من نظريات الطبيعة أو الفيزياء اليوم في مسألة انشطار الذرة.
وهذا التصور في "الجوهرية" –وإن أمكن أن يكون موجودًا بأكثر من مصدر من المصادر المذكورة- إلا أنه بالأساس مأخوذ عن العقيدة الإسلامية التي تقرر أن الله تعالى وحده ليس قبله شيء وليس بعده شيء، وليس كمثله شيء في الوجود، بل كل شيء مخلوق له، هو سبحانه خَلَقه، والتي ترى أن التسلسل باطل، وأن ثمة نهاية لكل موجود في هذا الكون. فليس هناك ما هو "لانهائي" في موجودات الكون إلا إذا كان مقدَّرًا (كالمستقبل) أو وهميًا.. وكل كائنات الكون المحسوس متحيزة بين بداية ونهاية.
ثم "غير المتحيّز" في هذا الوجود فيسمى "العَرَض": وهو شيء موجود في غيره لا يمكن أن يقوم بذاته دون غيره، مثل الصفات والأحوال: "كالفقر والغنى، والصحة والمرض، والسعادة و الحزن، والقوة والذكاء واللون والطول..الخ. كل هذه الصفات تمثل أعراضًا غير متحيزة بذاتها وتحتاج إلى محلٍ تحل فيه. فلابد لنعرفها من وجود الفقير والغنيّ والصحيح والعليل والسعيد والحزين والقوي والأبيض..الخ.
والله تعالى غير ذلك وفوق ذلك ... ومن ثم فهو سبحانه غير متحيّز لا هو جسم ولا جوهر، إلا إنه أيضًا ليس بعَرَض! والكلاميون قالوا بضرورة إخراج الحديث عن والله تعالى من هذه القصة وهذه التقسيمة. فحتى إذا قيل إنه "غير متحيّز" فإن عدم تحيّزه سبحانه مختلف عن عدم تحيّز غيره!
ومن ثم رأوا أن المعلوم ثلاثة:
– الربّ تبارك وتعالى بصفات اللاهوت (الكمال) والرحموت (الجمال) و الجبروت (الجلال).
– الـمُلك، وهو ما يدرك بالحِس بما فيه من عوالم الأشياء و الأشخاص والأحداث.. ويمكنني أن أسيطر عليه بالميكروسكوب أو التليسكوب أو بالحواس المجرّدة.
– الملكوت، وهو الموجود غير الواقع تحت الحس أو الحواس الظاهرة، كالملائكة والجنّ والأرواح...الخ. لكن قد نصل إلى كشفه في يوم من الأيام.
وكل يوم نكتشف فيه شيئًا فإنه يدخل من عالم الملكوت إلى عالم الملُك الذي نراه يتزايد عبر التاريخ البشري، كاكتشافنا للكهرباء، الموجات، وكـــ"الفيمتو-ثانية" وآلة التصوير التي نقلت التفاعل الكيميائي من عالم الملكوت إلى عالم الـمُلك (والذرة حتى الآن لا تزال في عالم الملكوت، حتى إن بعض المدارس لا تزال تنكر وجودها بناء على أمور فلسفية و أفكار فيزيقية معينة!).
كل هذه الأمور أثرت في العقلية المسلمة دون أن يقول أرسطو فيها شيئًا، إنما جاءت من اتباع ومتابعة العقيدة المستقرة.
وقد اعتمدوا على فكرة "الجوهر الفرد" هذه من أجل الإثبات العقلي والرياضي للوجود الإلهي ونفي المثيل. فقد نجم عنها رفض "التسلسل اللانهائي" رياضيًا؛ مما أكد القول بأن إلى الله تعالى المنتهى، كما نجم عنها رفض مسألة "الدور" والتي تعني أن الأشياء بينها علاقة إيجاد متبادل: هذا أوجد ذاك وذاك أوجد هذا ، بما يؤدي إلى حلقة مفرغة تشبه قصة البيضة والدجاجة كما أشرنا من قبل. فقد رفضوا ذلك على أساس أنه لابد من "بداية"ٍ خلق الله عندها أحد السببيّن فكان سببًا للآخر.
هذا في المتحيِّز، أما العرَض فقد قال أرسطو إن له تسعة أنواع، إلا إن المسلمين رأوا أن التحقيق يصل بهذه التسعة إلى اثنين فقط مرتبطين بسبع صفات (أعراض) أو أكثر، وقد صاغوا تقسيمة أرسطو للأولاد والمتعلمين –ساعتها- في صورة أراجيز بسيطة، فقالوا:
زيد الطويلُ الأزرقُ بن مالكِ في بيته بالأمس كان مُتكي
بيده عودُ قد لواه فالتوى فهذه عشر مسائل سُوا
زيد: الشخص وهو الجوهر أو الجسم المتحيّز، وهو على الجوهرية لا الجسمية، بينما الأعراض التسعة هي:
الطويل: الكمّ، ومنه المتصل (كالمتر...) والمنفصل (كعدد حبات القمح).
الأزرق: الكيف، كاللون والصحة و الذكاء... وغيرها.
ابن مالك: النسبة، المنسوب إلى مالك.
في بيته: المكان.
بالأمس: الزمان.
متُكئ: الوضع: كراكع وساجد.
بيده: الملِك، مثل "عندي" و"لي".
لواه: الفعل.
فالتوى: أثر الفعل.
هذا ما قالوه عن أرسطو، غير أنهم قالوا إن هذا كله يمكن أن يسمى "النسبة". وهذه النسبة لا تقتصر على هذه التسع فقط، فقد تكون أكثر منها بكثير. الأمر الذي يبين لنا أن تعاملهم مع معارف الآخرين قام كعملية انتقائية، لا كتقليد أعمى.
وإذا استطعنا أن نحدد هذه العشرة (المتحيّز والعَرضَ بصفاته التسع)، أمكننا أن نحدد ونشخص الوقائع والأحوال تشخيصًا كاملًا في لحظتها الآنية بما يقارب الصورة الفوتوغرافية. لقد أفاض ذلك على المسلمين الكثير في توصيف ظواهر الواقع ورصدها، وهي المهمة الأساسية التي تشغل بال الباحث في العلوم الاجتماعية الإنسانية الحديثة بدرجة كبيرة.
إن هذا الاستعراض لجانب رئيس من كيفية إدراك الموروث الإسلامي للوجود من حوله وأثره على إدراك الوقائع الجزئية، يدفعنا لإعادة النظر في هذا الموروث وسبر أغواره. إن تعبيراته في مجال الرؤية الكلية –على اختصار عباراتها- قد تــنْبِئ بأن الكثير من نظريات القرن العشرين ومكتشفاته قال بها المسلمون، لكن بألفاظ أخرى معبرة عن لغتهم التي نسعى لفهمها والاقتراب منها.
فمثلاً، لماذا يُعد الضوء –بالأساس- هو أسرع شيء في حركته؟ إجابة النظريات الحديثة -كما في نظرية "الفوتونات"- تدور حول أن الضوء لا يسير في خطوط مستقيمة إنما في تموّجات وفي تقطعات، وهذا يعني أن هذا الضوء يفنى ثم يأتي غيره في لحظات تقدر بالفيمتو-ثانية وأقل. وهذا نفس ما قررته الرؤية التراثية الإسلامية لكن بألفاظ مختلفة: أن كل الأعراض -ومنها الضوء- غير ثابتة، تفنى وتحيا في ما يقترب من اللازمن.
وكذلك استخلص المسلمون عقليًا من مجموع المصادر السابقة التي نوهنا بها، وبناء على العقيدة الإسلامية التي تقول: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}- الآية 29, سورة الرحمن، استخلصوا نظرية أساسية تسمى "نظرية الإيجاد والإمداد".
فهناك إيجاد (أي خلْق) {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} - الآية 67, سورة مريم، وهناك إمداد، وهذا الإمداد {كُن فَيَكُونُ}- الآية 117, سورة البقرة, مستمر متواصل لا ينقطع... ولو أن الله تعالى قطع هذا الإمداد لأفنى المقطوع عنه، وليس معنى ذلك أن يموت، فالموت خلْق جديد { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ }- الآية 2, سورة الملك، بل يفنى أي يصير إلى عدم محض... فالله تعالى لا يزال خالقًا، وقطعه الإمداد –ولله سبحانه المثل الأعلى- هو كقطع التيار الكهربائي عن المصباح فتختفي الصور وينطفئ نور الشاشة.
فالإمداد هو الذي يحفظ الإيجاد ويعطيه الحيوية، وهو من الله وحده لا يشاركه فيه أحد، ومن هذا فهموا معنى (لا حول ولا قوة إلا بالله ) بمعنى انقطاع كل قدرة أو حول أو طاقة إلا بعون الله ومدده، وفهموا دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم : (لا تكلني إلى نفسي طرفة عين)(1) لأنه لو أوكلني إلى نفسي فسوف أفنى، فلا حول لي و لا قوة في أن أوجد نفسي أو أن أبقيها إلا بالله العلي العظيم... وإذا وصل معتقد الفرد إلى هذا، وصل إلى درجات التوكل والتفويض، والانصراف إلى الله تعالى بكلية القلب والفكر والهمة في العبادة والحياة. فأنا منه وإليه، ومن ذلك أيضًا نفهم المناجاة النبوية: (لبيك وسعديك, والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك)(2).
كانت هذه هي العقيدة السائدة حتى القرن التاسع عشر الميلادي، لكنها كانت حاضرة بالأساس في النخبة. فالأمة اليوم جهِلت وتحولت إلى أمة أميَّة تجهل دينها وقرآنها، تقريبًا منذ ما بعد القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)؛ حيث انتهى عصر توليد العلوم وبدأ عصر الزخم العقيم. فعلى سبيل المثال يقيم (الفخر الرازي) حفلًا ضخمًا ليعرض فيه ألف دليل على وجود الله تعالى ، بينما كان تعليق إحدى العجائز على ذلك: أكان لديه ألف شكًّ في وجود الله تعالى ؟ فهذا مما نقصده بالزخم العقيم.
ومن ناحية أخرى، فلابد من ملاحظة أن أسس بناء الحضارات شيء، وما تقوم عليه هذه الحضارات من فلسفة ورؤى شيء آخر. لكن هناك خلطًا شائعًا بين الفلسفة المؤسسة للحضارة وبين الواقع الماثل لها؛ الأمر الذي يثير العديد من الجدالات. فالتقدم الحضاري له قوانينه، والتميز الحضاري له قواعده.
وقد تقدم المسلمون وهم يجيبون عن هذه الأسئلة الكبرى كأسئلة كلية أولية، وكذلك تقدم الغرب دون أن يجيب عنها! فهذه القضية وإن كانت تؤثر في صبغة الحضارة، إلا أن عملية البناء الحضاري لها وسائل أخرى. فالرؤية الكلية الخاصة بي تقول لي، اعبد الله تعالى ، ومن ثم فإنني أبني كل حضارتي على: عبادة الله تعالى فهي حضارة تعبُّد، وعلى عمارة الكون:{وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}- الآية 61, سورة هود.
ومن ثم إذا تعارضت عملية البناء مع العمران وكانت ذات مفاسد، فإن منظوري يمنعني من المضي في هذا السبيل ويضطرني للبحث عن غيره ... فلا أخترع الطائرة الخارقة للصوت التي تفسد الأوزون وأبحث عن درء المفاسد قبل جلب المنافع!
وليس معنى هذا أن الآخر -الذي جعلها أسئلة نهائية وعاش بالشك- قد تقدم وبنى حضارته لأنه هكذا.. فالأساس هو السعي والجدية والاتساق. والغربي المعاصر سعى وعمّر دنياه على فلسفات ومفاهيم البراجماتية والتقنية والمادية، وسيادة مفهوم "السوق" وغيره، وانتهى إلى بناء هذه الحضارة بالحال التي هي عليها، وبنى حضارته بالجدية: أن يعمل بإتقان، أن يجيد العمل في فريق وبروح الجماعة، ولأهداف محددة، وبوسائل ملائمة...الخ . وفي الغرب اتسق واقعهم مع فلسفتهم حتى لو كانت فلسفة كفر وإلحاد، وبالاتساق يأتي الاستمرار.
وقد خفت صوت الحضارة الإسلامية وخَبَت نارها لاختفاء الروح الجادّة منها بعدما كانت سائدة شائعة في الأوائل كما نلحظه من مطالعة تراثهم، حيث بلغوا قمة المحبة والخوف والمعرفة في تعلقهم بربهم ودينهم، وغاية الإتقان والجهد والتأنّي في بناء دنياهم على أساس ذلك. واستكانت الحضارة الإسلامية عندما فقدت (الاتساق): الاتساق بين العقيدة والسلوك، بين الرؤية والنظام السائد: سياسّيا كان أو اجتماعيًا أو اقتصاديًا. إن أسس الحضارة الإسلامية تراجعت بعد نحو الألف عام التي كان المسلمون فيها ينتجون حضارة وعلومًا، فبهتت خطوط المصحف وهبطت الفنون وتشرذم البرنامج اليومي للمسلم، ليس لأن الفلسفة والرؤية المؤسِّسة كانت معيبة أو معاكسة لحركة التقدم، بل لمخالفة المسلمين لسنن التقدم الحضاري.
ومن حيث البقاء فهناك حضارات بادت وعقمت؛ لأنها قدمت البنيان على الإنسان، أما حضارة الإسلام فقد بقيت -وإن تراجعت- لأنها قدمت الإنسان على البنيان، وهذا ليس له علاقة بالتقدم.
لكن لماذا اختفت هذه العقلية التراثية؟ ما المشكلة التي آلت إلى الانفصال بين النص والواقع؟ إن المشكلة أن الإنسان المالك للنموذج المعرفي والمرجعية لم يعد يتعرض للمشكلات الواقعية وجذورها وما ورائياتها.. حدث هذا في مصر منذ عصر محمد علي ومشروعه حين فصل بين نوعي التعليم: مدني وديني،.. ومنذ أن قيل لرجل العلم الشرعي: إنك رجل دين لا رجل دنيا؛ ومن ثم يجب أن تبقى معزولاً عن مثل هذه الأشياء التي تجري في الواقع.. اليوم يقال له: لماذا لا تجتهد في إعطاء الحكم الإسلامي والحل الإسلامي لهذه المشكلات.. وأين هو منها؟ وبالمثل يُفعل مع الواقعي المتصرّف أو دارس العلوم الاجتماعية الحديثة، حين يُطالب بأن يكون إسلاميًا وهو منعزل تمامًا عن تعلم أي شيء في هذا!
لقد آل ذلك إلى غياب الشريعة الإسلامية ومن بعدها ضعف العقيدة في واقع الأمة. فعلى سبيل المثال لما جاء الخديوي إسماعيل –في مصر- ساعيًا بالأساس للتحرر من الدولة العثمانية والتي كانت لها ظلالها المعنوية الكثيرة كدولة خلافة إسلامية... ولما رآها تدعو إلى تطبيق الشريعة على النسق الذي ظهر في "مجلة الأحكام العدلية"، ومع سعيه هو للانفصال دعا "مجدي صالح باشا"، فأقام تقنينًا للشريعة الإسلامية إلا أنه لم يعُمل به حتى بعدما تم طبع ترجمته؛ لأنه ظل حبيس الأدراج.. وظلت المهاترات في التقنين تتوالى حتى حُكمنا بقوانين ليست منا ولسنا منها في شيء.
وذلك إلى أن جاء الدكتور السَّنهوري ووضع التقنين المدنيّ، ووضع أحمد باشا أمين القانون الجنائي –وذلك استنباطًا من مجمل القوانين أو التقنينات العالمية. ولما شرح السنهوري مطوّله في القانون المدني -في اثني عشر جزءًا- جاء شرحه من قوانين شتى: بلجيكي، فرنسي،.. ومن الشريعة الإسلامية أيضًا. ونحن الآن محكومون بها، وبعضها ناتج عن المبادئ العامة للعدل التي يحكم بها كل قاضٍٍ.. ولم يبق من الشريعة سوى قوانين ما يعرف بالأحوال الشخصية وبعض نظريات العقود..الخ. وهذا الوضع نحاول استدراكه الآن من خلال عرض القوانين الجديدة على المؤسسة الدينية قبل تشريعها .
إذن هناك فصام بين العقيدة والشريعة من جهة وبين نظام حياتنا القائم بالفعل، وهذا الحال لا يمكن أن تقوم في ظله حضارة أو سلوكيات تحضُّر .. وانظر لماذا يتعمد الناس كسر إشارات المرور ولا يشعرون بالخجل، بل الأدهى أن المسئول عن متابعة هذه المخالفات لا يجد غالبًا في نفسه داعيًا لضبط المخالفين أو معاقبتهم. أما لو علم أن ذلك منبثق عن عقيدته، وأنه محكوم بالشرع الذي يؤمن به، فلا شك أنه سيقوم بعمله هذا من باب التعبد لله رب العالمين...إن هذا هو ما يثير إعجابنا بالغرب وسبق أن أشرنا إليه: الاتساق.
الهوامش:
------------------------
(1) من حديث أنس "قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة: "ما منعك أن تسمعي ما أوصيك به؛ أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين". أخرجه النسائي والبزار. فتح الباري, الجزء 12.
(2) جزء من حديث: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعاً، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت لبيك وسعديك, والخير كله في يديك، والشر ليس إليك. أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك) 1672 صحيح مسلم, جزء 6, باب 26, كتاب صلاة المسافرين.
المصدر : الطريق إلى فهم التراث ، لفضيلة مفتى الديار المصرية ، الدكتور على جمعة