تحدثنا في المقال السابق عن معجزة رحلة الإسراء, وأوضحنا أنها مثلت خروجا جزئيا عن القانون الكوني من حيث الزمان والمكان. واليوم نتحدث عن رحلة المعراج وهي إعجاز فريد خص الله سبحانه به سيد الخلق سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم دون غيره من الخلائق.
ففي لحظة لطيفة خاطفة صعد من المسجد الأقصي إلي السماوات العلا, ومنها إلي سدرة المنتهي وهو ما يعد كشفا كليا للغيب, وخروجا كاملا عن قوانين الأرض, وتجاوزا لا تستطيع بلوغه حواس الإنسان ومداركه.
ومما يجدر ذكره في هذه المعجزة الكبري أنها أخذت بيد النبي صلي الله عليه وسلم ليتجاوز عوالم الكون ومحددات الوجود, وهي عوالم الزمان والمكان والأشخاص والأحوال.
أما عالم الزمان فقد سبق القول ببيان كيف طوي الله عز وجل لنبينا صلي الله عليه وسلم الزمان بما لا تبلغه العقول ولا تستوعبه الأفهام إلا إذا أدركت تلك العقول نفحات من الإيمان.
وأما عالم المكان فإنه صلي الله عليه وسلم تجاوز كل مكان وصله مخلوق, من نبي مقرب أو ملك مرسل, حيث تجاوز السماوات السبع إلي سدرة المنتهي, إلي حيث شاء الله عز وجل بما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر علي قلب بشر.
وتجاوز أيضا عالم الأشخاص مع ما لهم من الحب والكرامة عند الله سبحانه, سواء أكانوا أنبياء أم مرسلين أو ملائكة مقربين, بداية من آدم في السماء الأولي مرورا بعيسي وموسي من أولي العزم حتي أبي الأنبياء خليل الرحمن إبراهيم, بل تجاوز الأمين جبريل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, فقال له نبينا صلي الله عليه وسلم: أفي هذا المكان يفارق الخليل خليله؟, فأشار جبريل إلي قوله تعالي:( وما منا إلا له مقام معلوم) الصافات164
وبخصوص عالم الأحوال فقد فاق رسول الرحمة صلي الله عليه وسلم كل المقامات, وبلغ أعلي الرتب والدرجات, فإنه تجاوز مراتب المرسلين, ومر علي أحوال الملائكة المقربين الذين وصفهم الله بقوله: ( يسبحون الليل والنهار لا يفترون)( الأنبياء:20) وقال صلي الله عليه وسلم عن السماوات:( ما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم..)( المعجم الكبير للطبراني201/3, وشعب الإيمان للبيهقي348/3) ولم يتحمل جبريل أنوار جلال الله تعالي, فترك رسول الله صلي الله عليه وسلم يدخل علي تلك الأنوار وحده, ويتلقي الوحي والعلم والفضل من الله عز وجل دون واسطة جبريل, ليفضل الجميع بما تلقاه في تلك الحال, ويتحقق تفرده كما قال سبحانه: (وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما)( النساء:113). ولقد ظهرت هذه المعاني كلها بعوالمها الأربعة في قوله تعالي:( وهو بالأفق الأعلي(7) ثم دنا فتدلي(8) فكان قاب قوسين أو أدني(9) فأوحي إلي عبده ما أوحي(10) ما كذب الفؤاد ما رأي(11) أفتمارونه علي ما يري(12) ولقد رأه نزلة أخري(13) عند سدرة المنتهي(14) عندها جنة المأوي(15)) إذ يغشي السدرة ما يغشي(16) ما زاغ البصر وماطغي(17) لقد رأي من آيات ربه الكبري)( النجم:187).
تلك كانت القضية الأولي في معجزة المعراج, وهي الخروج الكلي عن قوانين البشر وغيرهم في الحياة الدنيا, لتكون مثالا ناصعا وحجة واضحة لالتقاء عالم الغيب وعالم الشهادة, إظهارا لقدرة الله تعالي ولفضل النبي محمد صلي الله عليه وسلم, ومنها ننتقل إلي القضية الثانية التي تجلت في الإسراء والمعراج معا, وهي اجتماع الرسول صلي الله عليه وسلم بإخوانه من رسل الله وأنبيائه في طريق صعوده إلي سدرة المنتهي, وفي هذا تأكيد علي وحدة الرسالة التي أرسلوا بها جميعا إلي أهل الأرض, وهي نشر عقيدة التوحيد وتحرير البشرية من نير عبودية العباد إلي شرف عبودية رب العباد وحده لا شريك له.
وبالنظر إلي حوار خاتم الأنبياء والمرسلين مع إخوانه من الأنبياء نجدهم قد أقروا بنبوته صلي الله عليه وسلم إيمانا منهم وحرصا علي إتمام هذه الرسالة التي جمعتهم في سلسلة واحدة وهدف واحد, إذ مصدرها من الله, وهدفها التحقق بمراد الله, وغايتها الوصول إلي مرضاة الله, فالأنبياء جميعا إخوة فيما بينهم, كل منهم يؤدي دوره الذي أنيط به, ويكمل شريعة الله بما يتفق والزمان والحال الذي أرسل فيه, حتي أتي النبي الكريم محمد صلي الله عليه وسلم ليكون اللبنة الأخيرة في هذا البناء الرباني, والكلمة الأخيرة في خطاب الله للعالمين, ولهذا ظهرت حفاوة الأنبياء في استقبالهم لرسول الله صلي الله عليه وسلم إذ لم يمر علي أحد منهم من آبائه إلا بادره بقوله: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح, وقال له إخوانه: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح رواه البخاري1410/3 كما نلاحظ رفقهم في وصاياهم للرسول صلي الله عليه وسلم بالرفق بالأمة وخوفهم عليها, حيث قال له الخليل إبراهيم عليه السلام: يا محمد, أقريء أمتك مني السلام, وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة, عذبة الماء, وأنها قيعان, وأن غراسها: سبحان الله, والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر رواه الترمذي وحسنه510/5, فيما أوصاه الكليم موسي عليه السلام بطلب تخفيف الصلاة من رب العزة وظل يراجعه حتي خففت من خمسين صلاة إلي خمس صلوات في اليوم والليلة.
لقد أظهرت حادثة الإسراء والمعراج حالة الحب والاحترام والتوقير بين الأنبياء جميعا, وأنه لا اختلاف بينهم في أصول دينهم, وأن همهم واحد وغايتهم واحدة, وهي عبادة الله وعمارة الأرض, وتزكية النفس, والأخذ بيد الإنسان من ظلمات الجهل إلي نور العلم والرحمة والهداية. وهو أحوج ما تكون البشرية إليه اليوم, ولا يتحقق ذلك إلا بأن يعود كل أصحاب دين إلي ما كان عليه نبيهم من صلاح وقيم وإرساء الحب والاحترام بين أتباع الأنبياء جميعا.
==============================================
بقلم: د. علي جمعة