وفي تضاعف جوده صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان بخصوصه فوائد كثيرة:
منها: شرف الزمان ومضاعفة أجر العمل فيه، وفي الترمذي عن أنس مرفوعا: ((أفضل الصدقة صدقة رمضان)).
ومنها: إعانة الصائمين والقائمين والذاكرين على طاعاتهم، فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم، كما أن من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلفه في أهله فقد غزا، وفي حديث زيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من فطر صائما فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء)). خَرَّجَه الإمام أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه، وخرجه الطبراني من حديث عائشة وزاد: ((وما عمل الصائم من أعمال البر إلا كان أجره لصاحب الطعام ما دام قوة الطعام فيه)). وخرج ابن خزيمة في صحيحه من حديث سلمان مرفوعا حديثا في فضل شهر رمضان وفيه: ((وهو شهر المواساة، وشهر يزاد فيه في رزق المؤمن، من فطَّر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء، قالوا: يا رسول الله، ليس كلنا يجد ما يفطِّر الصائم؟ قال: يعطي الله هذا الثواب لمن فطر صائما على مذقة لبن أو تمرة أو شربة ماء، ومن أشبع فيه صائما سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة)).
ومنها: أن شهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار لا سيما في ليلة القدر، والله تعالى يرحم من عباده الرحماء كما قال صلى الله عليه وسلم: ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء)). فمن جاد على عباد الله جاد الله عليه بالعطاء والفضل، والجزاء من جنس العمل.
ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة كما في حديث علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في الجنة غرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها، قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن طيب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام)). وهذه الخصال كلها تكون في رمضان فيجتمع فيه للمؤمن الصيام والقيام والصدقة وطيب الكلام، فإنه ينهى فيه الصائم عن اللغو والرفث. والصيام والصلاة والصدقة توصل صاحبها إلى الله عز وجل، قال بعض السلف: الصلاة توصل صاحبها إلى نصف الطريق، والصيام يوصله إلى باب الملك، والصدقة تأخذ بيده فتدخله على الملك، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أصبح منكم اليوم صائما؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن أطعم اليوم مسكينا؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من تصدق بصدقة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن عاد منكم مريضا؟ قال أبو بكر: أنا، قال: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة)).
ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا واتقاء جهنم والمباعدة عنها، وخصوصا إن ضم إلى ذلك قيام الليل، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الصيام جنة)). وفي رواية: ((جنة أحدكم من النار كجنته من القتال)). وفي حديث معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وقيام الرجل من جوف الليل)). يعني أنه يطفئ الخطيئة أيضا. وقد صرح بذلك في رواية الإمام أحمد. وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اتقوا النار ولو بشِقِّ تمرة)). كان أبو الدرداء يقول: صلوا في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور، صوموا يوما شديدا حره لحر يوم النشور، تصدقوا بصدقة لشر يوم عسير.
ومنها: أن الصيام لا بد أن يقع فيه خلل ونقص وتكفير الصيام للذنوب مشروط بالتحفظ مما ينبغي التحفظ منه، كما ورد ذلك في حديث خَرَّجَه ابن حبان في صحيحه. وعامة صيام الناس لا يجتمع في صومه التحفظ كما ينبغي؛ ولهذا نهي أن يقول الرجل: صمت رمضان كلَّه أو قمته كله، فالصدقة تجبر ما فيه من النقص والخلل؛ ولهذا وجب في آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، والصيام والصدقة لهما مدخل في كفارات الأيمان، ومحظورات الإحرام، وكفارة الوطء في رمضان؛ ولهذا كان الله تعالى قد خير المسلمين في ابتداء الأمر بين الصيام وإطعام المسكين، ثم نسخ ذلك وبقي الإطعام لمن يعجز عن الصيام لكبره، ومن أخر قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر فإنه يقضيه ويضم إليه إطعام مسكين لكل يوم تقوية له عند أكثر العلماء كما أفتى به الصحابة، وكذلك من أفطر لأجل غيره كالحامل والمرضع على قول طائفة من العلماء.
ومنها: أن الصائم يدع طعامه وشرابه لله فإذا أعان الصائمين على التقوي على طعامهم وشرابهم كان بمنزلة من ترك شهوة لله وآثر بها أو واسى منها؛ ولهذا يشرع له تفطير الصوام معه إذا أفطر؛ لأن الطعام يكون محبوبا له حينئذ فيواسى منه حتى يكون من أطعم الطعام على حبه، ويكون في ذلك شكر لله على نعمة إباحة الطعام والشراب له ورده عليه بعد منعه إياه، فإن هذه النعمة إنما عرف قدرها عند المنع منها. وسئل بعض السلف: لم شرع الصيام؟ قال: ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع، وهذا من بعض حكم الصوم وفوائده. وقد ذكرنا فيما تقدم حديث سلمان المرفوع وفيه: ((وهو شهر المواساة)).
فمن لم يقدر فيه على درجة الإيثار على نفسه فلا يعجز عن درجة أهل المواساة. كان كثير من السلف يواسون من إفطارهم أو يؤثرون به ويطوون، وكان ابن عمر يصوم ولا يفطر إلا مع المساكين، فإذا منعهم أهله عنه لم يتعش تلك الليلة، وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام وقام فأعطاه السائل فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجفنة فيصبح صائما ولم يأكل شيئا. واشتهى بعض الصالحين من السلف طعاما وكان صائما فوضع بين يديه عند فطوره فسمع سائلا يقول: من يقرض الملي الوفي الغني؟ فقال: عبده المعدم من الحسنات، فقام فأخذ الصحفة فخرج بها إليه وبات طاويا. وجاء سائل إلى الإمام أحمد فدفع إليه رغيفين كان يعدهما لفطره ثم طوى وأصبح صائما. وكان الحسن يطعم إخوانه وهو صائم تطوعا ويجلس يروحهم وهم يأكلون. وكان ابن المبارك يطعم إخوانه في السفر الألوان من الحلواء وغيرها وهو صائم. سلام الله على تلك الأرواح، رحمة الله على تلك الأشباح، لم يبق إلا أخبار وآثار، كم بين من يمنع الحق الواجب عليه وبين أهل الإيثار.
لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم***ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد.