ومنها: اغتساله بين العشاءين، وقد تقدم من حديث عائشة: ((واغتسل بين الأذانين))، والمراد أذان المغرب والعشاء. وروي من حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم ((كان يغتسل بين العشاءين كل ليلة يعني من العشر الأواخر)). وفي إسناده ضعف.
وروي عن حذيفة ((أنه قام مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من رمضان فاغتسل النبي صلى الله عليه وسلم وستره حذيفة، وبقيت فضلة فاغتسل بها حذيفة، وستره النبي صلى الله عليه وسلم)) خَرَّجَه ابن أبي عاصم. وفي رواية أخرى عن حذيفة قال: ((قام النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة من رمضان في حجرة من جريد النخل، فصب عليه دلوا من ماء)) وقال ابن جرير: كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر، وكان النخعي يغتسل في العشر كل ليلة. ومنهم من كان يغتسل ويتطيب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر. فأمر زر بن حبيش بالاغتسال ليلة سبع وعشرين من رمضان. وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه إذا كان ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيب ولبس حلةً إزارًا أو رداءً، فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من قابل
وكان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث وعشرين وأربع وعشرين، ويلبس ثوبين جديدين، ويستجمر ويقول: ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة أهل المدينة والتي تليها ليلتنا، يعني البصريين. وقال حماد بن سلمة: كان ثابت البناني وحميد الطويل يلبسان أحسن ثيابهما، ويتطيبان، ويطيبون المسجد، بالنضوح والدخنة في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر. وقال ثابت: كان لتميم الداري حلة اشتراها بألف درهم، كان يلبسها في الليلة التي يرجى فيها ليلة القدر، فتبين بهذا أنه يستحب في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر التنظف والتزين، والتطيب بالغسل والطيب واللباس الحسن. كما يشرع ذلك في الجُمَع والأعياد. وكذلك يشرع أخذ الزينة بالثياب في سائر الصلوات كما قال تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}. وقال ابن عمر: الله أحق أن يتزين له. وروي عنه مرفوعا
ولا يكمل التزين الظاهر إلا بتزين الباطن بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى، وتطهيره من أدناس الذنوب وأوضارها، فإن زينة الظاهر مع خراب الباطن لا تغني شيئا، قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى***تقلب عريانا وإن كان كاسيا.
لا يصلح لمناجاة الملوك في الخلوات إلا من زين ظاهره وباطنه، وطهَّرهما خصوصا ملكَ الملوك، الذي يعلم السر وأخفى، وهو لا ينظر إلى صوركم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، فمن وقف بين يديه فليزين له ظاهره باللباس، وباطنه بلباس التقوى.
أنشد الشبلي:
قالوا غَدَا العيدُ ماذا أنت لابسهُ***فقلتُ خلعة ساقٍ حبه جرعا
فقرٌ وصبرٌ هما ثوبان تحتهما*** قلب يرى إِلْفَه الأعيادَ والجمعا
أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به***يوم التزاور في الثوب الذي خلعا
الدهر لي مأثم إن غبت يا أملي***والعيد ما كنت لي مرأى ومستمعا
ومنها: الاعتكاف ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ((كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى))، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين)).
وإنما كان يعتكف النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العشر التي يطلب فيها ليلة القدر؛ قطعا لأشغاله، وتفريغا لباله، وتخليا لمناجاة ربه وذكره ودعائه، وكان يحتجر حصيرا يتخلى فيها عن الناس، فلا يخالطهم ولا يشتغل بهم؛ ولهذا ذهب الإمام أحمد إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس حتى ولا لتعليم علم، وإقراء قرآن، بل الأفضل له الانفراد بنفسه، والتخلي بمناجاة ربه وذكره ودعائه، وهذا الاعتكاف هو الخلوة الشرعية، وإنما يكون في المساجد؛ لئلا يترك به الجمع والجماعات، فإن الخلوة القاطعة عن الجمع والجماعات منهي عنها.
سئل ابن عباس عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل ولا يشهد الجمعة والجماعة قال: هو في النار. فالخلوة المشروعة لهذه الأمة هي الاعتكاف في المساجد، خصوصا في شهر رمضان، خصوصا في العشر الأواخر منه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره، وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله عنه، وعكف بقلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه، فما بقي له هم سوى الله وما يرضيه عنه، كما كان داود الطائي يقول في ليله: همك عطل على الهموم، وحالف بيني وبين السهاد، وشوقي إلى النظر إليك أوبق مني اللذات، وحال بيني وبين الشهوات
ما لي شغل سواه ما لي شغل***ما يصرف عن قلبي هواه عذل
ما أصنع إن جفا وخاب الأمل***مني بدل ومنه مالي بدل
فمعنى الاعتكاف وحقيقته: قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق، وكلما قويت المعرفة بالله والمحبة له والأنس به أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى بالكلية على كل حال. كان بعضهم لا يزال منفردا في بيته خاليا بربه فقيل له: أما تستوحش؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني.
أوحشَتْني خَلَواتي***بك من كلِّ أنيسِ
وتَفَرَّدْتُ فعايَنْـ***تُكَ بالغيب جَليسِي
يا ليلة القدر للعابدين اشهدي، يا أقدام القانتين اركعي لربك واسجدي، يا ألسنة السائلين جدي في المسألة واجتهدي.
يا رجالَ الليلِ جِدُّوا***رُبَّ داعٍ لا يردُّ
ما يقومُ الليلَ إلا ***من له عزمٌ وجِدُّ
ليلة القدر عند المحبين ليلة الحظوة بأنس مولاهم وقربه، وإنما يفرون من ليالي البعد والهجر.
كان ببغداد موضعان يقال لأحدهما: دار الملك، والأخرى: القطيعة، فجاز بعض العارفين بملاح في سفينة، فقال له: احملني معك إلى دار الملك، فقال له الملاح: ما أقصد إلا القطيعة، فصاح العارف: لا بالله لا بالله منها أفر.
وليلةٍ بتُّ بأكنافها تعدلُ عندي ليلةَ القدرِ
كانتْ سلامًا لسروري بها***بالوصل حتى مطلعِ الفجرِ
يا من ضاع عمره في لا شيء، استدرك ما فاتك في ليلة القدر؛ فإنها تحسب بالعمر.
وليلةِ وصلٍ بات منجزُ وعدِهِ***سَميري فيها بعد طولِ مَطَالِ
شَفَيْتُ بها قلبًا أُطِيل عليلُهُ ***زمانًا فكانت ليلةً بليالِي
قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍرِ} واختُلِف في ليلة القدر والحكمة في نزول الملائكة في هذه الليلة، أن الملوك والسادات لا يحبون أن يدخل دارهم أحد حتى يزينوا دارهم بالفُرُش والبُسُط، ويزينوا عبيدهم بالثياب والأسلحة، فإذا كان ليلة القدر أمر الرب تبارك وتعالى الملائكة بالنزول إلى الأرض؛ لأن العباد زينوا أنفسَهم بالطاعات، بالصوم والصلاة في ليالي رمضان، ومساجدَهم بالقناديل والمصابيح، فيقول الرب تعالى: أنتم طعنتم في بني آدم وقلتم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مِنْ يُفْسِدُ فِيهَارِ} الآية فقلتُ لكم: {إِنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَرِ} اذهبوا إليهم في هذه الليلة حتى تروهم قائمين ساجدين راكعين؛ لتعلموا أني اخترتهم على علم على العالمين. قال مالك: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خيرا من ألف شهر.
وروي عن مجاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك، فأنزل الله تعالى هذه السورة {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} الذي لَبِس فيها ذلك الرجلُ السلاحَ في سبيل الله ألفَ شهرٍ. وقال النخعي: العمل فيها خير من العمل في ألف شهر. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)). وفي المسند عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قامها ابتغاءها ثم وقعت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)).
وفي المسند والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في شهر رمضان: ((فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم)). قال جويبر: قلت للضحاك: أرأيت النفساء والحائض والمسافر والنائم لهم في ليلة القدر نصيب؟ قال: نعم كل من تقبل الله عمله سيعطيه نصيبه من ليلة القدر.
إخواني، المعول على القبول لا على الاجتهاد والاعتبار ببر القلوب لا بعمل الأبدان، رُبَّ قائم حظه من قيامه السهر، كم من قائم محروم، وكم من نائم مرحوم، نام وقلبه ذاكر، وهذا قام وقلبه فاجر.
إنَّ المقاديرَ إذا ساعدتْ***أَلْحَقَت النَّائمَ بالقائمِ
لكن العبد مأمور بالسعي في اكتساب الخيرات، والاجتهاد في الأعمال الصالحات، وكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}. فالمبادرةَ المبادرةَ إلى اغتنام العمل فيما بقي من الشهر، فعسى أن يستدرك به ما فات من ضياع العمر.
تولَّى العمرُ في سهوٍ***وفي لَهْوٍ وفي خُسْرِ
فيَا ضَيْعَةَ ما أَنْفَقْـ***ـتُ في الأيامِ من عمرِي
وما لي في الَّذي ضيَّعْـ***ـتُ من عُمريَ من عذرِ
فما أغْفَلَنا عن وَا***جِبات الحَمْد والشُّكرِ.
أما قد خَصَّنَا اللَّهُ***بشهر أيَّما شهرِ
بَشَهْرٍ أَنْزلَ الرَّحْمَـ***ـنُ فيه أشرفَ الذِّكْرِ.
وَهَلْ يُشْبِهُهُ شَهْرٌ***وفيهِ ليلةُ القدْرِ
فَكمْ من خَبَرٍ صَـــحَّ***بما فيها من الخَيْرِ
رَوَيْنَا عن ثِقاتٍ أنَّـــهَا*** تُطْلَبُ في الوِتْرِ
فَطُوبَى لامرئٍ يطلُـ*** ــبُهَا في هذه العَشْرِ
فَفِيها تَنْزلُ الأَمْلا***كُ بالأَنْوارِ والبِرِّ
وَقَد قال سَلامٌ هِـ***يَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ
أَلا فادَّخِرُوهَا إنها***من أَنْفَسِ الذُّخْرِ
فَكَمْ مِنْ مُعْتَقٍ فيها***من النَّارِ ولا يَدْرِي
-----------------------------------------
المصدر: كتاب لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف للحافظ ابن رجب الحنبلي.