=============
- ختم القرآن
=============
كان للسلف -رضي الله عنهم- عاداتٌ مختلِفةٌ في قَدْرِ ما يَخْتِمُون فيه.
فمنهم مَنْ كان يَخْتِمُ القرآن في اليوم والليلة مَرَّة، وبعضهم مرتين وانتهى بعضهم إلى ثلاث، ومنهم مَنْ كان يَخْتِمُ في الَّشهْرِ مَرَّة.
وقد كَرِهَ جماعةٌ من المتقدِّمين الخَتْمَ في كل يوم وليلة؛ لأن السرعة في التلاوة تمنعه من الترتيل، ومما روي في ذلك َأنَّ النَّبِيَّ َصلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَ َسلَّمَ قَالَ لعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَِضيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: «اقرأ الْقُرْآنَ كُلِّ َشهْرٍ » قَالَ: ِإ ُأطِيقُ َأكْثَرَ، فَمَا زَالَ حَتَّى
قَالَ: « ثَلاثٍ » (100)، وفي رواية: «اقْرَْأهُ َسبْعٍ» (101).
لكن العلماء وجَّهوا هذه الكراهة إلى أنها في حق بعض الأشخاص؛ باختلاف أحوالهم، قال أبو الوليد الباجِيُّ: " َأمْرُ النَّبِيِّ َصلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَ َسلَّمَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو َأنْ يَخْتِمَ َسبْعٍ َأوْ ثَلاثٍ: يَحْتَمِلُ َأنَّهُ الَأفَْضلُ في الجملَةِ، َأوْ َأنَّهُ الَأفَْضلُ في حَقِّ ابْنِ عَمْرٍو، لِمَا عَلِمَ مِنْ تَرْتِيلِهِ قِرَاءَتِهِ، وَعَلِمَ مِنْ َضعْفِهِ عَنِ ا ْستِدَامَتِهِ َأكثر مِمَّا حَدَّ لَهُ، وَ َأمَّا مَنِ ا ْستَطَاعَ َأكثر مِنْ ذَلِكَ فَلا نُْمتَعُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَ ُسئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ كُلِّ لَيْلَةٍ فَقَالَ: مَا َأحَْسنَ ذَلِكَ، ِإنَّ الْقُرْآنَ إمَامُ كُلِّ خَْير (102 ).
وقال النَّوَوِيُّ: "وَالاخْتِيَارُ َأنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ الَأ ْشخَاِص فَمَنْ كَانَ يَظْهَرُ لَهُ بِدَقِيقِ الْفِكْرِ لَطَائِفُ وَمَعَارِفُ فَلْيَقْتَِصر عَلَى قَدْرِ مَا يَحُْصلُ لَهُ كَمَالُ فَهْمِ مَا يَقْرَُؤهُ، وَكَذَا مَنْ كَانَ مَْشغُولا بِنَْشر الْعِلْمِ َأوْ غَيره مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ وَمََصالِحِ الْمسلِمِينَ الْعَامَّةِ، فَلْيَقْتَصر عَلَى قَدْرٍ لا يَحُْصلُ بِسبَبِهِ ِإخْلالٌ بِمَا هُوَ مُرَْصدٌ لَهُ، وَِ إنْ لم يَكُنْ مِنْ هَُؤلاءِ المذكُورِينَ فَلْيَْستَكْثِرْ مَا َأمْكَنَهُ مِنْ غَير خُرُوجٍ ِإلَى حَدِّ الْملَلِ وَالْهَذرَمَةِ"( 103 ).
ومن العلماء من استحب ختم القرآن في أول الليل و أول النهار( 104 )، قال الإمام الغزالي: "والَأحَبُّ أن يَختِم خَتْمةً باللَّيل وخَتْمةً بالنهار، ويجعلَ خَتْمَهُ بالنهار يوم الإثنين في رَكْعتَيِ الفجر أو بَعْدَهما، ويجعلَ خَتْمَهُ بالليل ليلةَ الجمعة في رَكْعتَيِ المغرب أو بَعْدَهما؛ ليَستقبِل أوَّلَ النهار و أوَّلَ اللَّيل بختمته؛ فإن الملائكة عليهم السلام تَُصلِّي عليه إن كانت خَتْمَتُه ليلا حتى يُصبِح و إن كان نهارًا حتى يمسي، فتشمل بركتُهما جميعَ اللَّيل والنَّهار"( 105). كما استحبَّ بعُض العلماء لمن قرأ وحده أن يختم في الصلاة( 106 ).
ويُسنُّ الدُّعَاء عَقِبَ خَتْمِ القرآن؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله و سلم أنه قال: «مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فَلَهُ دَعْوَةٌ مُستَجَابَةٌ » (107).
قال النووي: "قال السلف: يُْستَجَابُ الدُّعَاءُ عِنْدَ الختمِ وَتَنْزِلُ الرَّحْمَةُ, وَاْستَحَبُّوا الدُّعَاءَ بَعْدَ الختمِ استِحْبَابًا مُتََأكَّدًا وَجَاءَ فِيهِ آثَارٌ كَثِيرَةٌ, وَيُلِحُّ الدُّعَاءِ وَيَدْعُو بِالْمُهِمَّاتِ وَيُكْثِرُ مِنْ ذَلِكََ صلاحِ الْمسلِمِينَ وََصلاحِ وُلاةِ ُأمُورِهِمْ؛ وَيَخْتَارُ الدَّعَوَاتِ الجامِعَةَ"( 108 ).
يستحب حضور مجلس خَتْم القرآن استحبابًا مُتأكَّدًا، فقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال: «لِتَخْرُجِ الْعَوَاتِقُ ذَوَاتُ الُخدورِ - َأوِ الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الخدورِ- وَالحيض، فَيَْشهَدْنَ االخير وَدَعْوَةَ الْمسلِمِينَ » (109)، و إذا كانت النساءُ المستوراتُ في البيوت والنساءُ الحُيَُّض ألماموراتُ بالكفِّ عن بعض العبادات مأموراتٍ بحضور مجلس الدعاء لِيَكُنَّ فيمن يدعو، ويَُؤمِّن، رجاء بركة المشهد الكريم، فلأن يتأكَّد ذلك في حقِّ غيرهن من باب أولى.
وروى ابن أبي داود عن ابن عباس -رضي الله عنهما- َأنَّهُ كَانَ يَجْعَلُ رَجُلا يُرَاقِبُ رَجُلا يَقْرَُأ الْقُرْآنَ فَِإذَا َأرَادَ َأنْ يَخْتِمَ َأعْلَمَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَيَْشهَدُ ذَلِكَ، ورُوِيَ عن َأنَسٍ -رضي الله عنه- َأنَّهُ كَانَ ِإذَا خَتَمَ الْقُرْآنَ جَمَعَ وَلَدَهُ وَ أهْلَ بَيْتِهِ فَدَعَا لَهُمْ( 110 )، وروى ابن أبي داود بأسانيده الصحيحة عن الحكم بن عيينة التابعي الجليل قال: أرسل إليَّ مجاهد وعتبة بن لبابة فقالا: " إنَّا َأرَْسلْنا إليك؛ لَِأنَّا َأرَدْنا أن نَختِم القر آن، والدعاءُ يُستَجاب عند خَتْم القرآن". وفي بعض الروايات الصحيحة: "و أنَّه كان يُقالُ إنَّ الرَّحمةَ تَنزِلُ عند خاتمة القر آن". وروى بإ سناده الصحيح عن مجاهد قال: "كانوا يَجتمِعون عند خَتْم القرآن، يَقُولونَ: تَنزِلُ الرَّحمة"( 111 ).
ويَُسنُّ إذا فَرَغَ مِنَ الختمةِ أن يَشرعَ في أخرى عَقِبَ الختمة؛ لما روي عن ابن عَبَّاسٍ قال: قال رَجُلٌ: يَا رَُسولَ اللهِ، َأيُّ الْعَمَلِ َأحَبُّ ِإلَى اللهِ؟ قال: « اْلحال الْمُرْتَحِلُ »، قال: وَمَا الحالُّ المرْتحِلُ؟ قال: «الَّذِي يَْضربُِ مِنْ َأوَّلِ الْقُرْآنِ ِإلَى آخِرِهِ كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلَ» (112).
==================================================
(101)أخرجه عبد الرزاق في مصنفه ( 3/ 355 ).
( 102 ) ينظر: البرهان في علوم القر آن ( 1/ 471 )، ط دار المعرفة، بيروت، سنة 1391 ه.
( 103 ) ينظر: التبيان في آداب حملة القرآن ( ص 61 )، ط 3 دار ابن حزم، بيروت، سنة 1414 ه.
( 104 ) ينظر: المجموع شرح المهذب ( 2/ 194 ).
( 105 ) ينظر: إحياء علوم الدين ( 1/ 276 (، ط دار لماعرفة، بيروت.
( 106 ) ينظر: المجموع شرح المهذب ( 2/ 194 ).
(107) أخرجه الطبر نيا في المعجم الكبير ( 18 / 259 ).
( 108 ) ينظر: المجموع شرح المهذب ( 2/ 194 ).
(109) أخرجه البخاري ( 2/ 595 )، ومسلم ( 2/ 605 ).
( 110 ) أخرجه الدارمي في سننه ( 4/ 1830 )، ط 1 دار الكتاب العربي، بيروت، سنة 1407 ه.
( 111 ) ينظر: التبيان في آداب حملة القرآن ( ص 159 ).
(112) أخرجه الترمذي في سننه ( 5/ 197 ).