خرج مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر». وقد اختلف في هذا الحديث، ثم في العمل به، فمنهم من صححه ومنهم من قال: هو موقوف، قاله ابن عيينة وغيره، وإليه يميل الإمام أحمد، ومنهم من تكلم في إسناده.
وأما العمل به فاستحب صيام ستة من شوال أكثر العلماء، روي ذلك عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وطاوس والشعبي وميمون بن مهران، وهو قول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، وأنكر ذلك آخرون.
روي عن الحسن أنه كان إذا ذكر عنده صيام هذه الستة قال: "لقد رضي الله بهذا الشهر للسنة كلها"، ولعله إنما أنكر على من اعتقد وجوب صيامها، وأنه لا يكتفى بصيام رمضان عنها في الوجوب، وظاهر كلامه يدل على هذا، وكرهها الثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف، وعلل أصحابهما ذلك بمشابهة أهل الكتاب، يعنون في الزيادة في صيامه المفروض عليهم ما ليس منه، وأكثر المتأخرين من مشايخهم قالوا: لا بأس به، وعللوا بأن الفضل قد حصل بفطر يوم العيد، حكى ذلك صاحب الكافي منهم، وكان ابن مهدي يكرهها ولا ينهى عنها، وكرهها أيضا مالك، وذكر في الموطأ أنه لم ير أحدا من أهل العلم والفقه يصومها، قال: ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وأن أهل العلم يكرهون ذلك، ويخافون بدعته، وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهلُ الجهالة لو رأوا أحدا من أهل العلم يفعل ذلك، وقد قيل: إنه كان يصومها في نفسه، وإنما كرهها على وجه يخشى منه أن يعتقد فريضتها؛ لئلا يزاد في رمضان ما ليس منه.
وأما الذين استحبوا صيامها فاختلفوا في صيامها على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يستحب صيامها من أول الشهر متتابعة، وهو قول الشافعي وابن المبارك، وقد روي في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: «من صام ستة أيام بعد الفطر متتابعة فكأنما صام السنة» خرجه الطبراني وغيره من طرق ضعيفة، وروي موقوفا، وروي عن ابن عباس من قوله بمعناه بإسناد ضعيف أيضا.
والثاني: أنه لا فرق بين أن يتابعها أو يفرقها من الشهر كله، وهما سواء، وهو قول وكيع وأحمد.
والثالث: أنه لا يصام عقيب يوم الفطر، فإنها أيام أكل وشرب، ولكن يصام ثلاثة أيام قبل أيام البيض أو بعدها، وهذا قول معمر وعبد الرزاق، ويروى عن عطاء حتى روي عنه أنه كره لمن عليه صيام من قضاء رمضان أن يصومه، ثم يصله بصيام تطوع، وأمر بالفصل بينهما، وهو قول شاذ، وأكثر العلماء على أنه لا يكره صيام ثاني يوم الفطر، وقد دل عليه حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لرجل: «إذا أفطرت فصم»، وقد ذكرناه في صيام آخر شعبان، وقد سرد طائفة من الصحابة والتابعين الصوم إلا يوم الفطر والأضحى، وقد روي عن أم سلمة أنها كانت تقول لأهلها: "من كان عليه رمضان فليصمه الغد من يوم الفطر، فمن صام الغد من يوم الفطر فكأنما صام رمضان"، وفي إسناده ضعف.
وعن الشعبي قال: "لأن أصوم يوما بعد رمضان أحب إلي من أن أصوم الدهر كله". ويروى بإسناد ضعيف عن ابن عمر مرفوعا: «من صام بعد الفطر يوما فكأنما صام السنة»، وبإسناد ضعيف عن ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعا: «الصائم بعد رمضان كالكارّ بعد الفارّ».
وأما صيام شوال كله:
============
ففي حديث رجل من قريش سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «[color=green]من صام رمضان وشوالا والأربعاء والخميس دخل الجنة»، خرجه الإمام أحمد والنسائي، وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث مسلم القرشي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سئل عن صيام الدهر؟ فقال: «إن لأهلك عليك حقا، فصم رمضان والذي يليه وكل أربعاء وخميس، فإذا أنت قد صمت الدهر وأفطرت». وخرج ابن ماجه بإسناد منقطع «أن أسامة بن زيد كان يصوم الأشهر الحرم، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: صم شوالا»، فترك الأشهر الحرم، ثم لم يزل يصوم شوالا حتى مات. وخرجه أبو يعلى الموصلي بإسناد متصل عن أسامة قال: «كنت أصوم شهرا من السنة فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: [color=green]أين أنت من شوال؟»، فكان أسامة إذا أفطر أصبح الغد صائما من شوال حتى يأتي على آخره، وصيام شوال كصيام شعبان؛ لأن كلا الشهرين حريم لشهر رمضان وهما يليانه، وقد ذكرنا في فضل صيام شعبان أن الأظهر أن صيامهما أفضل من صيام الأشهر الحرم، ولا خلاف في ذلك.
وإنما كان صيام رمضان وإتباعه بست من شوال يعدل صيام الدهر؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وقد جاء ذلك مفسرا من حديث ثوبان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «صيام رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بشهرين، فذلك صيام سنة» يعني رمضان وستة أيام بعده، خرجه الإمام أحمد والنسائي وهذا لفظه، وابن حبان في صحيحه وصححه أبو حاتم الرازي، وقال الإمام أحمد: ليس في أحاديث الباب أصح منه، وتوقف فيه في رواية أخرى، ولا فرق في ذلك بين أن يكون شهر رمضان ثلاثين أو تسعا وعشرين، وعلى هذا حمل بعضهم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة». وقال: المراد كمال آخره سواء كان ثلاثين أو تسعا وعشرين، وأنه إذا أتبع بستة أيام من شوال فإنه يعدل صيام الدهر على كل حال، وكره إسحاق بن راهويه أن يقال لشهر رمضان: إنه ناقص وإن كان تسعا وعشرين لهذا المعنى.
فإن قال قائل: فلو صام هذه الستة الأيام من غير شوال يحصل له هذا الفضل، فكيف خص صيامها من شوال؟ قيل: صيامها من شوال يلتحق بصيام رمضان في الفضل، فيكون له أجر صيام الدهر فرضا، ذكر ذلك ابن المبارك، وذكر أنه في بعض الحديث حكاه عنه الترمذي في جامعه، ولعله أشار إلى ما روي عن أم سلمة -رضي الله عنها-: «أن من صام الغد من يوم الفطر فكأنما صام رمضان».