هذه الشهور والأعوام والليالي والأيام كلها مقادير للآجال ومواقيت للأعمال، ثم تنقضي سريعا وتمضي جميعا، والذي أوجدها وابتدعها وخصها بالفضائل وأودعها باق لا يزول، ودائم لا يحول، هو في جميع الأوقات إله واحد، ولأعمال عباده رقيب مشاهد، فسبحان من قلب عباده في اختلاف الأوقات بين وظائف الخدم؛ ليسبغ عليهم فيها فواضل النعم، ويعاملهم بنهاية الجود والكرم، لما انقضت الأشهر الثلاثة الكرام التي أولها الشهر الحرام وآخرها شهر الصيام، أقبلت الأشهر الثلاثة أشهر الحج إلى البيت الحرام، فكما أن من صام رمضان وقامه غفر له ما تقدم من ذنبه، فمن حج البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
فما يمضي من عمر المؤمن ساعة من الساعات إلا ولله فيها عليه وظيفة من وظائف الطاعات، فالمؤمن يتقلب بين هذه الوظائف ويتقرب بها إلى مولاه، وهو راج خائف.
المحب لا يمل من التقرب بالنوافل إلى مولاه، ولا يأمل إلا قربه ورضاه.
ما للمحب سوى إرادة حبه***إن المحب بكل بر يضرع
كل وقت يخليه العبد من طاعة مولاه فقد خسره، وكل ساعة يغفل فيها عن ذكر الله تكون عليه يوم القيامة ترة، فواأسفاه على زمان ضاع في غير طاعته، وواحسرتاه على وقت فات في غير خدمته:
من فاته أن يراك يوما***فكل أوقاته فوات
وحيثما كنت من بلاد***فلي إلى وجهك التفات
إليكم هجرتي وقصدي***وأنتم الموت والحياة
أمنت أن توحشوا فؤادي***فآنسوا مقلتي ولات
من عمل طاعة من الطاعات وفرغ منها، فعلامة قبولها أن يصلها بطاعة أخرى، وعلامة ردها أن يعقب تلك الطاعة بمعصية.
ما أحسن الحسنة بعد السيئة تمحوها، وأحسن منها الحسنة بعد الحسنة تتلوها، وما أقبح السيئة بعد الحسنة تمحقها وتعفوها.
ذنب واحد بعد التوبة أقبح من سبعين ذنبا قبلها، النكسة أصعب من المرض وربما أهلكت.
سلوا الله الثبات على الطاعات إلى الممات، وتعوذوا به من تقلب القلوب، ومن الحور بعد الكور، ما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة، وأفحش فقر الطمع بعد غنى القناعة، ارحموا عزيز قوم بالمعاصي ذل، وغني قوم بالذنوب افتقر.
ترى الحي الأولى بانوا***على العهد كما كانوا
أم الدهر بهم خانوا***ودهـر المرء خـوان
إذا عـز بغير الله يـو***مًا معـشر هانوا
يا شبان التوبة لا ترجعوا إلى ارتضاع ثدي الهوى من بعد الفطام، فالرضاع إنما يصلح للأطفال لا للرجال، ولكن لا بد من الصبر على مرارة الفطام، فإن صبرتم تعوضتم عن لذة الهوى بحلاوة الإيمان في القلوب، من ترك لله شيئا لم يجد فقده عوضه الله خيرا منه: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 70]. وفي الحديث: «النظر سهم مسموم من سهام إبليس، من تركه من خوف الله أعطاه الله إيمانا يجد حلاوته في قلبه» خرجه الإمام أحمد وهذا الخطاب للشباب.
فأما الشيخ إذا عاود المعاصي بعد انقضاء رمضان فهو أقبح وأقبح؛ لأن الشباب يؤمل معاودة التوبة في آخر عمره، وهو مخاطر، فإن الموت قد يعاجله، وقد يطرقه بغتة، وأما الشيخ فقد شارف مركبه ساحل بحر المنون فماذا يؤمل؟!
نعى لك ظل الشباب المشيب***ونادتك باسم سواك الخطوب
فكن مستعدا لداعي الفناء*** فكل الذي هو آت قريب
ألسنا نرى شهوات النفو*** س تفنى وتبقى علينا الذنوب
يخاف على نفسه من يتوب*** فكيف يكون حال من لا يتوب"
ا.هـ
--------------------------------------
المصدر: كتاب "لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف" للحافظ ابن رجب الحنبلي.