- ومنها: أن الأعمال التي كان العبد يتقرب بها إلى ربه في شهر رمضان لا تنقطع بانقضاء رمضان، بل هي باقية بعد انقضائه ما دام العبد حيا. وهذا معنى الحديث المتقدم: «أن الصائم بعد رمضان كالكار بعد الفار» يعني كالذي يفر من القتال في سبيل الله ثم يعود إليه؛ وذلك لأن كثيرا من الناس يفرح بانقضاء شهر رمضان؛ لاستثقال الصيام وملله وطوله عليه، ومن كان كذلك فلا يكاد يعود إلى الصيام سريعا. فالعائد إلى الصيام بعد فطره يوم الفطر، يدل عوده على رغبته في الصيام وأنه لم يمله ولم يستثقله ولا تكره به.
وفي حديث خرجه الترمذي مرفوعا: «أحب الأعمال إلى الله الحال المرتحل» وفسر بصاحب القرآن يضرب من أوله إلى آخره، ومن آخره إلى أوله كلما حل ارتحل، والعائد إلى الصيام سريعا بعد فراغ صيامه شبيه بقارئ القرآن إذا فرغ من قراءته، ثم عاد إليه في المعنى والله أعلم.
قيل لبشر: إن قوما يتعبدون ويجتهدون في رمضان، فقال: بئس القوم قوم لا يعرفون لله حقا إلا في شهر رمضان، إن الصالح الذي يتعبد ويجتهد السنة كلها. وسئل الشبلي: أيما أفضل: رجب أو شعبان؟ فقال: كن ربانيا ولا تكن شعبانيا، ثم أنشد:
إذا كنت في حرب الهوى متجردا ** فكل أرض ثغر لي وطرسوس
***************************
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- عمله ديمـة
***************************
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- عمله ديمة، وسئلت عائشة -رضي الله عنها-: «هل كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يخص يوما من الأيام؟ فقالت: لا، كان عمله ديمة». وقالت: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة»، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقضي ما فاته من أوراده في رمضان في شوال، فترك في عام اعتكاف العشر الأواخر من رمضان ثم قضاه في شوال، فاعتكف العشر الأول منه.
وسأل رجلا: هل صام من سرر شعبان شيئا؟ فقال: لا، فأمره أن يصوم إذا أفطر، يعني: يقضي ما فاته من صيام شعبان في شوال. وقد تقدم عن أم سلمة أنها كانت تأمر أهلها: من كان عليه قضاء من رمضان أن يقضيه الغد من يوم الفطر، فمن كان عليه قضاء من شهر رمضان، فليبدأ بقضائه في شوال، فإنه أسرع لبراءة ذمته، وهو أولى من التطوع بصيام ست من شوال، فإن العلماء اختلفوا فيمن عليه صيام مفروض: هل يجوز أن يتطوع قبله أم لا؟ وعلى قول من جوز التطوع قبل القضاء، فلا يحصل مقصود صيام ستة أيام من شوال إلا لمن أكمل صيام رمضان، ثم أتبعه بست من شوال، فمن كان عليه قضاء من رمضان، ثم بدأ بصيام ست من شوال تطوعا لم يحصل له ثواب من صام رمضان، ثم أتبعه بست من شوال حيث لم يكمل عدة رمضان، كما لا يحصل لمن أفطر رمضان لعذر بصيام ستة أيام من شوال أجر صيام السنة بغير إشكال، ومن بدأ بالقضاء في شوال ثم أراد أن يتبع ذلك بصيام ست من شوال بعد تكملة قضاء رمضان كان حسنا؛ لأنه يصير حينئذ قد صام رمضان وأتبعه بست من شوال، ولا يحصل له فضل صيام ست من شوال بصوم قضاء رمضان؛ لأن صيام الست من شوال إنما يكون بعد إكمال عدة رمضان.
عمل المؤمن لا ينقضي حتى يأتيه أجله، قال الحسن: إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلا دون الموت، ثم قرأ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].