فمن فضائله: أن الله تعالى أقسم به جملة، وببعضه خصوصًا. قال تعالى: {وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1، 2].
فأما الفجر فقيل: إنه أراد جنس الفجر. وقيل: المراد طلوع الفجر، أو صلاة الفجر، أو النهار كله؛ فيه اختلاف بين المفسرين. وقيل: إنه أريد به فجر معين، ثم قيل: إنه أريد به فجر أول يوم من عشر ذي الحجة. وقيل: بل أريد به فجر آخر يوم منه، وهو يوم النحر. وعلى جميع هذه الأقوال، فالعشر يشتمل على الفجر الذي أقسم الله به.
وأما "الليالي العشر": فهي عشر ذي الحجة؛ هذا الصحيح الذي عليه جمهور المفسرين من السلف وغيرهم، وهو الصحيح عن ابن عباس؛ روي عنه من غير وجه والرواية عنه: "أنه عشر رمضان" إسنادها ضعيف.
وفيه حديث مرفوع خرجه الإمام أحمد، والنسائي في التفسير، من رواية زيد بن الحباب، حدثنا عياش بن عقبة، حدثنا خير بن نعيم، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((العشر عشر الأضحى، والوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر))، وهو إسناد حسن.
وكذا فسر "الشفع" و"الوتر" ابن عباس في رواية عكرمة وغيره. وفسرهما أيضًا بذلك عكرمة والضحاك وغير واحد. وقد قيل في "الشفع" و"الوتر"، أقوال كثيرة، وأكثرها لا يخرج عن أن يكون العشر أو بعضه مشتملا على الشفع والوتر أو أحدهما؛ كقول من قال: "هي الصلاة، منها شفع ومنها وتر"، وقد خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقول من قال: هي المخلوقات، منها شفع ومنها وتر، يدخل فيها أيام العشر
.
وقول من قال: الشفع الخلق كله، والوتر الله، فإن أيام العشر من جملة المخلوقات.
ومن فضائله أيضًا: أنه من جملة الأربعين التي واعدها الله عز وجل لموسى عليه السلام، قال الله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142]، لكن هل عشر ذي الحجة خاتـمة الأربعين، فيكون هو العشر الذي أتم به الثلاثون؟ أم هو أول الأربعين، فيكون من جملة الثلاثين التي أتـمت بعشر؟ فيه اختلاف بين المفسرين.
روى عبد الرزاق، عن معمر، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، قال: "ما من عمل في أيام السنة أفضل منه في العشر من ذي الحجة، وهي العشر التي أتـمها الله لـموسى عليه السلام".
ومن فضائله: أنه خاتـمة الأشهر المعلومات، أشهر الحج التي قال الله فيها: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]؛ وهي شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. وروي ذلك عن عمر، وابنه عبد الله، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن الزبير وغيرهم؛ وهو قول أكثر التابعين؛ ومذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وأبي يوسف وأبي ثور وغيرهم، لكن الشافعي وطائفة أخرجوا منه يوم النحر، وأدخله فيه الأكثرون؛ لأنه يوم الحج الأكبر، وفيه يقع أكثر أفعال مناسك الحج.
ma
وقالت طائفة: ذو الحجة كله من أشهر الحج، وهو قول مالك، والشافعي في القديم؛ ورواه عن ابن عمر أيضًا؛ وروي عن طائفة من السلف. وفيه حديث مرفوع خرجه الطبراني، لكنه لا يصح. والكلام في هذه المسألة يطول، وليس هذا موضعه.
ومن فضائله: أنه الأيام المعلومات التي شرع الله ذكره فيها على ما رزق من بـهيمة الأنعام، قال الله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 27، 28].
وجمهور العلماء على أن هذه الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة؛ منهم: ابن عمر وابن عباس والحسن وعطاء ومجاهد وعكرمة وقتادة والنخعي؛ وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه.
وروي عن أبي موسى الأشعري أن الأيام المعلومات هي تسع ذي الحجة غير يوم النحر، وأنه قال: "لا يرد فيهن الدعاء". خرجه جعفر الفريابي وغيره.
وقالت طائفة: هي أيام الذبح. وروي عن طائفة من السلف، وهو قول مالك، وأبي يوسف، وجعلوا ذكر الله فيها ذكره على الذبح؛ وهو قول ابن عمر رضي الله عنهما.
ونقل الـمروذي عن أحمد أنه استحسنه. والقول الأول أظهر.
وذكر الله على بـهيمة الأنعام لا يختص بحال ذبحها، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج: 37]. وقال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 34].
وأيضًا فقد قال الله تعالى بعد هذا: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ* ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 28، 29]. فجعل هذا كله بعد ذكره في الأيام المعلومات وقضاء التفث، وهو شعث الحج وغباره ونَصَبه.
والطواف بالبيت إنـما يكون في يوم النحر وما بعده، ولا يكون قبله. وقد جعل الله سبحانه هذا مرتبًا على ذكره في الأيام المعلومات بلفظة "ثم"، فدل على أن الـمراد بالأيام المعلومات ما قبل يوم النحر، وهو عشر ذي الحجة.
وأما قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28]، فقيل: إن المراد ذكره عند ذبحها، وهو حاصل بذكره في يوم النحر؛ فإنه أفضل أيام النحر. والأصح أنه إنـما أريد ذكره شكرًا على نعمة تسخير بـهيمة الأنعام لعباده؛ فإن لله تعالى على عباده في بـهيمة الأنعام نعمًا كثيرةً قد عدَّد بعضها في مواضع من القرآن. والحاج لـهم خصوصية في ذلك عن غيرهم؛ فإنـهم يسيرون عليها إلى الحرم؛ لقضاء نسكهم، كما قال تعالى: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]، وقال تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} [النحل: 7]. ويأكلون من لحومها، ويشربون من ألبانـها، وينتفعون بأصوافها وأوبارها وأشعارها.
ويختص عشر ذي الحجة في حق الحاج؛ بأنه زمن سوقهم للهدي الذي به يكمل فضل الحج، ويأكلون من لحومه في آخر العشر، وهو يوم النحر. وأفضل سوق الـهدي من الـميقات، ويشعر ويقلد عند الإحرام، وتقارنه التلبية، وهي من الذكر لله في الأيام المعلومات.
وفي الحديث: ((أفضل الحج؛ العج والثج)).
وفي حديث آخر: ((عجوا التكبير عجًّا، وثجوا الإبل ثجًّا)).
فيكون كثرة ذكر الله في أيام العشر شكرًا على هذه النعمة المختصة ببهيمة الأنعام، التي بعضها يتعلق بدين الحاج، وبعضها بدنياهم. وأفضل الأعمال ما كثر ذكر الله تعالى فيها؛ منها خصوصًا الحج.
وقد أمر الله تعالى بذكره كثيرًا في أيام الحج؛ قال تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ* ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 198، 199]؛ فهذا الذكر يكون في عشر ذي الحجة.
ثم قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]، وهذا يقع في يوم النحر، وهو خاتـمة العشر أيضًا. ثم أمر بذكره بعد العشر في الأيام المعدودات، وهي أيام التشريق.
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إنما جعل الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله عز وجل)).
وفي مسند الإمام أحمد، عن معاذ بن أنس: ((أن رجلا قال: يا رسول الله! أي الجهاد أعظم أجرًا؟ قال: أكثرهم لله ذكرًا. قال: فأي الصائمين أعظم أجرًا؟ قال: أكثرهم لله ذكرًا. قال: ثم ذكر الصلاة، والزكاة، والحج، والصدقة؛ كل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أكثرهم لله ذكرًا. فقال أبو بكر: يا أبا حفص! ذهب الذاكرون بكل خير. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل!)).
وقد خرجه ابن المبارك، وابن أبي الدنيا من وجوه أخر مرسلة، وفي بعضها: ((أي الحاج خير؟ قال: أكثرهم ذكرا لله)). وفي بعضها: ((أي الحاج أعظم أجرًا؟ قال: أكثرهم لله ذكرًا))، وذكر بقية الأعمال، بمعنى ما تقدم. فهذا كله بالنسبة إلى الحاج.
فأما أهل الأمصار فإنـهم يشاركون الحاج في عشر ذي الحجة؛ في الذكر، وإعداد الهدي.
فأما إعداد الهدي: فإن العشر تعدُّ فيه الأضاحي، كما يسوق أهل الموسم الـهدي، ويشاركونـهم في بعض إحرامهم؛ فإن من دخل عليه العشر وأراد أن يضحي، فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئًا، كما روت ذلك أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم. خرج حديثها مسلم، وأخذ بذلك الشافعي وأحمد، وعامة فقهاء الحديث.
ومنهم من شرط أن يكون قد اشترى هديه قبل العشر، وأكثرهم لم يشرطوا ذلك.
وخالف فيه مالك، وأبو حنيفة، وكثير من الفقهاء، وقالوا: لا يكره شيء من ذلك. واستدلوا بحديث عائشة: ((كنت أفتل قلائد الـهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يحرم عليه شيء أحله الله له)).
وأجاب كثير من أهل القول الأول: بأنه يجمع بين الحديثين؛ فيؤخذ بحديث أم سلمة فيمن يريد أن يضحي في مصره. وبحديث عائشة فيمن أرسل بـهديه مع غيره، وأقام في بلده.
وكان ابن عمر إذا ضحى يوم النحر حلق رأسه، ونص أحمد على ذلك.
واختلف العلماء في التعريف بالأمصار عشية عرفة، وكان الإمام أحمد لا يفعله ولا ينكر على من فعله؛ لأنه روي عن ابن عباس وغيره من الصحابة.
وأما مشاركتهم لـهم في الذكر في الأيام المعلومات؛ فإنه يشرع للناس كلهم الإكثار من ذكر الله في أيام العشر خصوصًا، وقد سبق حديث ابن عمر الـمرفوع: ((فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)).
واختلف العلماء: هل يشرع إظهار التكبير والجهر به في الأسواق في العشر، فأنكره طائفة، واستحبه أحمد والشافعي، لكن الشافعي خصَّه بحال رؤية بـهيمة الأنعام، وأحمد يستحبه مطلقًا.
وقد ذكر البخاري في صحيحه عن ابن عمر وأبي هريرة أنـهما كانا يخرجان إلى السوق في العشر، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، ورواه عفان حدثنا سلام أبو المنذر عن حميد الأعرج عن مجاهد قال: كان أبو هريرة وابن عمر يأتيان السوق أيام العشر فيكبران، ويكبر الناس معهما ولا يأتيان لشيء إلا لذلك.
وروى جعفر الفريابي في (كتاب العيدين): حدثنا إسحاق بن راهويه أخبرنا جرير عن يزيد بن أبي زياد قال: رأيت سعيد بن جبير ومجاهدًا وعبد الرحمن بن أبي ليلى أو اثنين من هؤلاء الثلاثة ومن رأينا من فقهاء الناس يقولون في أيام العشر: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
لـمَّا كان الله سبحانه وتعالى قد وضع في نفوس المؤمنين، حنينًا إلى مشاهدة بيته الحرام وليس كل أحد قادرًا على مشاهدته في كل عام، فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره وجعل موسم العشر مشتركًا بين السائرين والقاعدين، فمن عجز عن الحج في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته؛ يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج.
ليالي العشر أوقات الإجابة*** فبادر رغبة تلحق ثوابه
ألا لا وقت للعمَّالِ فيه *** ثواب الخير أقرب للإصابه
مِنَ اوقات الليالي العشر حقًّا***فشمر واطلبن بها الإنابه
احذروا المعاصي فإنـها تحرِم المغفرة في مواسم الرحمة، وروى المروذي في (كتاب الورع) بإسناده عن عبد الملك بن عمير عن رجل- إما من الصحابة أو من التابعين-: أن آتيًا أتاه في منامه في العشر من ذي الحجة فقال: «ما من مسلم إلا يغفر له في هذه الأيام كل يوم خمس مرار إلا أصحاب الشاه؛ يقولون: مات! ما موته؟! يعني أصحاب الشطرنج؛ فإذا كان اللعب بالشطرنج مانعًا من المغفرة فما الظن بالإصرار على الكبائر المجمع عليها.
طاعة الله خير ما لزم العبـ*** د فكن طائعًا ولا تعصينه
ما هلاك النفوس إلا المعاصي***فاجتنب ما نـهاك لا تقربنه
إن شيئًا هلاك نفسك فيه***ينبغي أن تصون نفسك عنه
المعاصي سبب البعد والطرد؛ كما أن الطاعات أسباب القرب والود:
أيضمن لي فتى ترك المعاصي***وأرهنه الكفالة بالخلاص
أطاع الله قوم فاستراحوا***ولم يتجرعوا غصص المعاصي
إخوانكم في هذه الأيام قد عقدوا الإحرام، وقصدوا البيت الحرام وملؤوا الفضاء بالتلبية والتكبير والتهليل والتحميد والإعظام، لقد ساروا وقعدنا وقربوا وبعدنا؛ فإن كان لنا معهم نصيب سعدنا.
أتراكم في النَّقا والمنحنى***أهل سلع تذكرونا ذكرنا
انقطعنا ووصلتم فاعلموا***واشكروا المنعم يا أهل منى
قد خسرنا وربحتم فصلوا ***بفضول الربح من قد غُبِنا
سار قلبي خلف أحمالكم***غير أن العذر عاق البدنا
ما قطعتم واديًا إلا وقد جئته*** أسعى بأقدام الـمنى
أنا مذ غبتم على تذكاركم***أترى عندكم ما عندنا
القاعدُ لعذرٍ شريكُ السائر، وربـما سبق السائر بقلبه السائرين بأبدانـهم، رأى بعضهم في الـمنام عشية عرفة في الموقف قائلا يقول له: أترى هذا الزحام على هذا الموقف؟ فإنه لم يحج منهم أحد إلا رجل تخلف عن الموقف فحج بـهمته، فوهب له أهل الموقف.
يا سائرين إلى البيت العتيق لقد***سرتم جسومًا وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذرٍ وقد رحلوا***ومن أقام على عذر كمن راحا
الغنيمة الغنيمة بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة، فما منها عوض ولا لـها قيمة. المبادرة المبادرة بالعمل، والعجل العجل قبل هجوم الأجل، قبل أن يندم المفرط على ما فعل، قبل أن يسأل الرجعة ليعمل صالـحًا فلا يجاب إلى ما سأل، قبل أن يحول الموت بين المؤمل وبلوغ الأمل، قبل أن يصير المرء مرتـهنًا في حفرته بما قدَّم من عمل.
ليس للميت في قبره فطر ولا أضحى ولا عشر،
ناءٍ عن الأهل على قربه كذاك من مسكنه القبر
يا من طلع فجر شيبه بعد بلوغ الأربعين! يا من مضى عليه بعد ذلك ليالي عشر سنين حتى بلغ الخمسين! يا من هو في معترك الـمنايا ما بين الستين والسبعين! ما تنتظر بعد هذا الخبر إلا أن يأتيك اليقين! يا من ذنوبه بعدد الشفع والوتر! أما تستحيي من الكرام الكاتبين؟! أم أنت ممن يكذِّب بيوم الدين؟ يا من ظلمة قلبه كالليل إذا يسري! أما آن لقلبك أن يستنير أو يلين؟! تعرض لنفحات مولاك في هذا العشر؛ فإن لله فيه نفحات يصيب بـها من يشاء، فمن أصابته سَعِدَ بـها آخر الدهر.
[جنحت شـمس حياتي وتدلت للغروب
وتولى ليل رأسي وبدا فجر المشيب
رب خلصني فقد لججت في بحر الذنوب
وأنلني العفو يا أقـرب من كل قريب].
-----------------------------
من كتاب لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف للحافظ ابن رجب الحنبلي.