* يمضي الزمان ويستدير ويعود لهيئته كيوم خلق الله السموات والأرض, وتكمل السنة القمرية دورتها, والأمة علي موعد مع مؤتمرها السنوي الأعظم يوم الحج الأكبر, يوم الوقوف بعرفة وإعلان البراءة من الشرك وأهله.
وتستحضر الأمة, سواء الذين وقفوا بعرفات الله وأدوا المناسك, أو من تعايشها بالمشاعر والحنين للبيت العتيق علي بعد مئات وآلاف الأميال, تستحضرالأمة وقفة النبي العربي محمد ـ صلي الله عليه وسلم ـ علي ناقته( القصواء) في حجة الوداع, ذلك المعلم الأساسي من معالم السيرة النبوية العطرة في الحجة الوحيدة للنبي محمد, إكمالا وإتماما لأركان الدين ولسنة صاحب الرسالة في العبادة, تحقيقا وتأكيدا فوريا لنزول قوله ـ تعالي ـ علي أرجح الروايات: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا.
* إن خطبة الوداع تعد ميثاق أول إعلان عالمي شامل كامل متكامل لحقوق الإنسان عامة( ولقد كرمنا بني آدم) و(كل المسلم علي المسلم حرام دمه وماله وعرضه).. وحقوق المرأة علي أخص الخصوص من خصوصية الذمة المالية, وحقها المطلق في المهر وشرط موافقتها علي عقد النكاح( الزواج), وعدم إكراهها, وحق النفقة والحماية والمعيشة الكريمة ونفقة المتعة تعويضا عن الطلاق, وحق حضانة الأطفال عند الطلاق, والأهم من ذلك كله, احتفاظها بلقب أسرتها بعد الزواج, ابتداء من أمهات المؤمنين, مثل قولنا السيدة خديجة بنت خويلد, والسيدة عائشة الصديقة بنت الصديق, والسيدة حفصة بنت عمر, وغيرهن من أمهات المؤمنين, وهذا الأمر بالذات لم تحصل عليه المرأة الغربية للآن, التي تفتقد اسم عائلتها بمجرد زواجها.
علاوة علي وضعه وتأكيده ـ صلي الله عليه وسلم ـ علي حرمة الدم والمال, ثم حثه ـ صلي الله عليه وسلم ـ علي ضرورة أداء الأمانة واستئصال شأفة الربا( آفة الاقتصاد العالمي الآن والسبب الرئيسي دائما في انهيارات البنوك وانهيارات اقتصاديات الدول وإفلاسها).. كما وضع دماء الجاهلية( الثأر), ومازال الثأر مرضا اجتماعيا متوطنا بصعيد مصر وبعض قبائل العرب لم يبرءوا منه بعد, كما وضع وترك عليه السلام مفاخر ومآثر الجاهلية, واستثني السقاية والسداية التي مازالت موجودة في آل شيبة سدنة البيت العتيق بأمر إلهي وقرآن يتلي ويتعبد به.
* إن أول إعلان عالمي لحقوق الإنسان في أكبر مؤتمر سجله التاريخ منذ أربعة عشر قرنا من الزمان, حضره أكثر من مائة وعشرة آلاف من المسلمين خرج منهم مائة ألف مع الرسول الكريم من المدينة, وانضم لهم في الطريق, وفي مكة عشرة آلاف, كما سجلت كتب التاريخ, هذا الإعلان جاء تتويجا لمعاهدات ووثائق والتزامات وقعها الرسول في حياته مثل وثيقة المدينة مع اليهود, وصلح الحديبية, وعهد الأمان لنصاري نجران, ورسائل الرسول لملوك قياصرة وأباطرة الأمم من حول الجزيرة, ثم وثيقة الثقيفة بعده عليه السلام, ووثيقة تسليم القدس, وعهد ابن الخطاب, وغيرها كثير مما يحفل به التاريخ الإسلامي الزاخر والثري بكنوزه وعطائه المتدفق المتجدد دائما.
إن التاريخ ماضيه وحاضره, قديمه وحديثه, لم يعرف مؤتمرا جامعا مثل مؤتمر المسلمين السنوي الأعظم, بل لا نبالغ إذا قلنا إن أغني الدول مثل أمريكا, وأكثر اتحادات الدول تقدما مثل الاتحاد الأوروبي لا يستطيع تنظيم مؤتمر سنوي يحضره أكثر من أربعة ملايين بجدول أعمال وخطوط سير ومواقف في أماكن محددة وتوقيتات معينة, ومناسك منظمة بدقة, ينتهي منسك ويبدأ آخر, وتظل منظومة متكاملة حتي تنتهي, ومن ثم فنحن ـ المسلمين ـ قد من الله علينا بقبلة واحدة للصلاة, يتجه إليها المسلمون من كل أركان المعمورة, وشهر واحد في العام لصيام الفرض, ووقت وأماكن معلومة للحج, وأوقات منظمة علي مدي اليوم والليلة للصلاة, وأنصبة معينة للزكاة.
* إن يوم الحج الأكبر يوم اكتمال الدين وتمام النعمة, وما يتلوه من أيام التشريق أيام عيد التضحية والفداء, ونحن نتلقي فيوضات الرحمة ونستلهم تجليات الرحمن حقيق علي المسلمين وحكامهم أن يجعلوها مناسبة وفرصة ثمينة لتدارس أمور دينهم وهموم أمتهم وأولوياتها, والقضية رقم واحد في الهم الإسلامي والعربي الآن, وليعتصم الجميع بحبل الله ولا يتفرقوا, ويتركوا الشحناء والبغضاء ويأخذوا بوصايا نبيهم الذي آخي بين المسلمين والمؤمنين, وآخي بين البشر جميعا, فكلنا لآدم وجعل ميزان التقوي والعمل الصالح وعمارة الأرض هو الفيصل في مقياس تقييم الإنسان واستعمركم فيها ونعرف كيف حذرنا ـ عليه السلام ـ من أن نعود كفارا يضرب بعضنا رقاب بعض؟!.. ونستلهم أيضا كيف حدد لنا ـ صلي الله عليه وسلم ـ كل تركته ومعالم طريقه, والعلامات الدالة عليه العاصمة من الضلال والزلل: كتاب الله تعالي وسنته ـ صلي الله عليه وسلم ـ وسنة الخلفاءالراشدين المهديين من بعده عليه الصلاة والسلام..
* مع فيوضات الرحمة في عرفات الله وتجليات الرحمن في عيد التضحية والفداء, ونحن نتفيأ في ظلال القرآن ونستلهم خطي النبي الأكرم في دروب السنة النبوية المطهرة, قولا وفعلا وعملا وسلوكا ظاهرا وباطنا وقلوبنا جميعا تهفو نحو الكعبة العصماء بمكة ومثوي الأعظم الحرمات والروضة الشريفة بالمدينة المنورة ونسترجع التاريخ ونعيد قراءته ما بين ماض وحاضر.. نسأل الله تعالي لمصرناالغالية ولأمتنا العربية والإسلامية الأمن والأمان والتقدم والسلامة والازدهار ولمصرنا خاصة رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات. عيدنا هتاف بدعاء المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم ـ يوم النصر والفتح بمكة ويوم عيد التضحية والفداء بأم القري ربنا لبيك وسعديك والخير كله منك وإليك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك.. الله أكبر ولله الحمد.
=======================================
بقلم:د. فوزي محمود