يذكر العلماء أن هناك فريقين: فريقا همه الدنيا, فهو حريص عليها مشغول بها, وقد ورد عن ابن عباس أن قوما من الأعراب كانوا يجيئون إلي الموقف, فيقولون: اللهم اجعله عام غيث, وعام خصب.
وعام ولاد حسن, لا يذكرون من أمر الآخرة شيئا, فأنزل الله فيهم هذه الآية المذكورة سابقا.
ولكن مدلول الآية أعم وأدوم, فهذا نموذج من الناس مكرور في الأجيال والبقاع, النموذج الذي همه الدنيا وحدها, يذكرها حتي حين يتوجه إلي الله بالدعاء, لأنها هي التي تشغله, وتملأ فراغ نفسه, وتحيط عالمه, وتغلقه عليه, هؤلاء قد يعطيهم الله نصيبا في الدنيا_ إذ قدر العطاء_, ولا نصيب لهم في الآخرة علي الإطلاق, وفريقا أفسح أفقا, وأكبر نفسا, لأنه موصول بالله, يريد الحسنة في الدنيا, ولكنه لا ينسي نصيبه من الآخرة, فهو يقول' ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار'.
إنهم يطلبون من الله الحسنة في الدارين, ولا يحددون نوع الحسنة, بل يدعون اختيارها لله, والله يختار لهم ما يراه حسنة, وهم باختياره لهم راضون, وهؤلاء لهم نصيب مضمون عند الله تعالي, وهو_ سبحانه_ سريع الحساب.
ثم تنتهي أيام الحج, وشعائره, ومناسكه, بالتوجيه إلي ذكر الله, وإلي تقواه' واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقي واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون'.
********************
ثالثا: وحدة الصف الإسلامي
********************
في الحج نري معني الوحدة بين الحجيج جليا كالشمس: وحدة في المشاعر, ووحدة في الشعائر, ووحدة في الهدف, ووحدة في العمل, ووحدة في القول, لا إقليمية ولا عنصرية, ولا عصبية للون أو جنس أو طبقة, إنما هم جميعا مسلمون, برب واحد يؤمنون, وببيت واحد يطوفون, ولكتاب واحد يقرأون, ولرسول واحد يتبعون, ولأعمال واحدة يؤدون.
وحدة الأمة من الأهداف الكبري التي شرع لها الحج, وهو جمع هذا الحشد الكبير من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في زمان واحد ومكان واحد علي عمل واحد بلباس واحد وبقصد واحد وبنداء واحد:' لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك. لا شريك لك'.
إن الحج يصهر ما بين الأمة من فوارق العرق واللغة والحدود, ويوحدها مخبرا ومظهرا, حتي يشعر الجميع بأنهم أمة واحدة كما أراد الله لهم, أمة وحدتها العقيدة, ووحدتها العبادة, ووحدها التشريع, ووحدتها الأخلاق, ووحدتها الآداب, ووحدتها المفاهيم, ولا عجب أن سمي الله المسلمين في كتابه( أمة) فقال تعالي' وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء علي الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا',
وقال سبحانه' كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله',
وقال عز من قائل' إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون'.
إن الحج مؤتمر عالمي, وهو أعظم مذكر للمسلم بحق أخيه المسلم وإن تباعدت الديار, وأعظم مذكر بأخوة الإسلام ورابطة الإيمان, هذا المؤتمر تختفي فيه كل الشعارات والجنسيات إلا شعارا واحدا' إنما المؤمنون إخوة'.
لقد نبهنا رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم إلي قيمة هذا المؤتمر حين اتخذ منه منبرا لإذاعة أهم القرارات والبلاغات التي تتصل بمصالح المسلمين.
ومن هنا كان علينا أن نتعلم من هذا المؤتمر الإسلامي العالمي الذي دعا إليه رب العالمين, وفرضه علي المسلمين مرة واحدة في العمر; ليرتبط المسلم شعوريا وعمليا بأبناء الإسلام حيثما كانوا في مشرق أو مغرب.
إن الشعور بالوحدة بين سائر أبناء الأمة سينتقل حتما من بين الحجيج إلي أن يكون شعورا عاما نابعا من قوله تعالي' إنما المؤمنون إخوة'.
والمسلم حين يقف في صلاته مناجيا ربه بهذا الدعاء' اهدنا الصراط المستقيم' بصيغة الجمع هذه, يستحضر في حسه وذهنه أمة الإسلام جمعاء.
وحين يقرأ قول الله تعالي' يا أيها الذين آمنوا' يفهم أن هذا الخطاب موجه للمسلمين جميعا أني كانوا.
وحين يلبي في الحج بنداء واحد:' لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك. لا شريك لك'. فإنه يحيي في نفسه الأمل ويبعث الهمة ويشحذ العزم, ويلتقي الحجيج في الأراضي المقدسة مع غير الحجيج في سائر بلاد المسلمين في وحدة التلبية ووحدة الشعور ووحدة الهدف.