*******************************************
الأكل في أيام الأعياد والشرب إنما يستعان به على ذكر الله تعالى وطاعته
*******************************************
فأيام التشريق يجتمع فيها للمؤمنين نعيم أبدانهم بالأكل والشرب ونعيم قلوبهم بالذكر والشكر، وبذلك تتم النعمة، وكلما أحدثوا شكرًا على النعمة كان شكرهم نعمة أخرى فيحتاج إلى شكر آخر، ولا ينتهي الشكر أبدًا.
إذا كان شكري نعمة الله نعمةً***علي له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله***وإن طالت الأيام واتصل العمر
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنها أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل)) إشارة إلى أن الأكل في أيام الأعياد والشرب إنما يستعان به على ذكر الله تعالى وطاعته، وذلك من تمام شكر النعمة أن يُسْتَعَانَ بها على الطاعات، وقد أمر الله تعالى في كتابه بالأكل من الطيبات والشكر له، فمن استعان بنعم الله على معاصيه فقد كفر نعمة الله وبدلها كفرًا، وهو جدير أن يسلبها كما قيل:
إذا كنت في نعمة فارعها***فإن المعاصي تزيل النعم
وداوم عليها بشكر الإله***فشكر الإله يزيل النقم
وخصوصًا نعمة الأكل من لحوم بهيمة الأنعام كما في أيام التشريق، فإن هذه البهائم مطيعة وهي مسبحة له قانتة كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} الإسراء: 44، وإنها تسجد له كما أخبر بذلك في سورة النحل وسورة الحج، وربما كانت أكثر ذكرًا لله من بعض بني آدم، وفي المسند مرفوعًا: ((رب بهيمة خير من راكبها وأكثر لهل منه ذكرًا))، وقد أخبر الله تعالى في كتابه أن كثيرًا من الجن والإنس كالأنعام بل هم أضل، فأباح الله عز وجل ذبح هذه البهائم المطيعة الذاكرة له لعباده المؤمنين حتى تتقوى بها أبدانهم وتكمل لذاتهم في أكلهم اللحوم، فإنها من أجلِّ الأغذية وألذها مع أن الأبدان تقوم بغير اللحم من النباتات وغيرها، لكن لا تكمل القوة والعقل واللذة إلا باللحم، فأباح للمؤمنين قتل هذه البهائم والأكل من لحومها ليكمل بذلك قوة عباده وعقولهم فيكون ذلك عونًا لهم على علوم نافعة وأعمال صالحة يمتاز بها بنو آدم على البهائم وعلى ذكر الله عز وجل وهو أكثر من ذكر البهائم، فلا يليق بالمؤمن مع هذا إلا مقابلة هذه النعم بالشكر عليها والاستعانة بها على طاعة الله عز وجل وذكره، حيث فضل الله ابن آدم على كثير من المخلوقات وسخر له هذه الحيوانات قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الحج: 36، فأما من قتل هذه البهائم المطيعة الذاكرة لله عز وجل ثم استعان بأكل لحومها على معاصي الله عز وجل ونسي ذكر الله عز وجل فقد قلب الأمر وكفر النعمة فلا كان من كانت البهائم خيرًا منه وأطوع.
نهارك يا مغرور سهو وغفلة***وليلك نوم والردى لك لازم
وتتعب فيما سوف تكره غبه*** كذلك في الدنيا تعيش البهائم
***************************
النهي عن صيام أيام التشريق
***************************
وإنما نُهِيَ عن صيام أيام التشريق؛ لأنها أعياد للمسلمين مع يوم النحر فلا تصام بمنى ولا غيرها عند جمهور العلماء خلافًا لعطاء في قوله: إن النهي مختص بأهل منى، وإنما نُهِيَ عن التطوع بصيامها سواء وافق عادة أو لم يوافق، فأما صيامها عن قضاء فرض أو نذر أو صيامها بمنى للمتمتع إذا لم يجد الهدي ففيه اختلاف مشهور بين العلماء، ولا فرق بين يوم منها ويوم عند الأكثرين إلا عند مالك، فإنه قال في اليوم الثالث منها: يجوز صيامه عن نذر خاصة.
وفي النهي عن صيام هذه الأيام والأمر بالأكل فيها والشرب سر حسن وهو لله تعالى لما علم ما يلاقي الوافدون إلى بيته من مشاقّ السفر وتعب الإحرام وجهاد النفوس على قضاء المناسك شرع لهم الاستراحة عقيب ذلك بالإقامة بمنى يوم النحر وثلاثة أيام بعده وأمرهم بالأكل فيها من لحوم نسكهم، فهم في ضيافة الله عز وجل فيها لطفًا من الله بهم ورأفة ورحمة.
وشاركهم أيضًا أهل الأمصار في ذلك لأن أهل الأمصار شاركوهم في حصول المغفرة والنصب لله والاجتهاد في عشر ذي الحجة بالصوم والذكر والاجتهاد في العبادات، وشاركوهم في حصول المغفرة وفي التقرب إلى الله تعالى بإراقة دماء الأضاحي فشاركوهم في أعيادهم، واشترك الجميع في الراحة في أيام الأعياد بالأكل والشرب، كما اشتركوا جميعًا في أيام العشر في الاجتهاد في الطاعة والنصب، وصار المسلمون كلهم في ضيافة الله عز وجل في هذه الأيام يأكلون من رزقه ويشكرونه على فضله ونهوا عن صيامها؛ لأن الكريم لا يليق به أن يجيع أضيافه فكأنه قيل للمؤمنين في هذه الأيام: قد فرغ عملكم الذي عملتموه فما بقي لكم إلا الراحة، فهذه الراحة بذلك التعب، كما أُرِيحَ الصائمون لله في شهر رمضان بأمرهم بإفطار يوم عيد الفطر، ويؤخذ من هذا إشارة إلى حال المؤمنين في الدنيا فإن الدنيا كلها أيام سفر كأيام الحج وهو زمان إحرام المؤمن عما حرَّم الله عليه من الشهوات، فمن صبر في مدة سفره على إحرامه وكف عن الهوى فإذا انتهى سفر عمره ووصل إلى منى المنى فقد قضى تفثه ووفى نذره فصارت أيامه كلها كأيام منى، أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل، وصار في ضيافة الله عز وجل في جواره أبد الأبد؛ ولهذا يقال لأهل الجنة: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الطور: 19.
{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} الحاقة: 24، وقد قيل: إنها نزلت في الصُّوُّام في الدنيا.
وقد صمت عن لذات دهري كلها *** ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي
قال بعض السلف: صم الدنيا، وليكن فطرك الموت.
غيره:
فصم يومك الأدنى لعلك في غد *** تفوز بعيد الفطر والناس صُوَّم
من صام اليوم عن شهواته أفطر عليها غدًا بعد وفاته، ومن تعجل ما حرم عليه من لذاته عوقب بحرمان نصيبه من الجنة وفواته، شاهد ذلك من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة، ومن لبس الحرير لم يلبسه في الآخرة
أنت في دار شتات***فتأهب لشتاتك
واجعل الدنيا كيوم***صمته عن شهواتك
وليكن فطرك عند اللـ***ــه في يوم وفاتك
قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يونس: 25.
الجنة ضيافة الله أعدها للمؤمنين نزلا، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إليها بالإيمان والإسلام والإحسان، فمن أجابه دخل الجنة وأكل من تلك الضيافة، ومن لم يجب حرم.
الجنة ضيافة الله أعدها للمؤمنين نزلا، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إليها بالإيمان والإسلام والإحسان، فمن أجابه دخل الجنة وأكل من تلك الضيافة، ومن لم يجب حرم.
خَرَّجَ الترمذي عن جابر قال: ((خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلا، فقال: اسمع سمعت أذناك واعقل عقل قلبك: إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارًا ثم بنى فيها بيتًا وجعل فيها مائدة، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه، فالله تعالى هو الملك، والدار هي الإسلام، والبيت الجنة، وأنت يا محمد رسولٌ مَنْ أجابك دخل الإسلام ومن دخل الإسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل فيها))، وخرجه البخاري بمعناه ولفظه: ((مثله كمثل رجل بنى دارًا وجعل فيها مأدبة، وبعث داعيًا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، والدار الجنة والداعي محمد صلى الله عليه وسلم)).
في بعض الآثار الإسرائيلية يقول الله تعالى: "ابن آدم ما أنصفتني أذكرك وتنساني، وأدعوك إليَّ فَتَفِرُّ مني إلى غيري، وَأُذْهِبُ عنك البلايا وأنت منعكف على الخطايا، ابن آدم ما يكون اعتذارك غدًا إذا جئتني".
طوبى لمن أجاب مولاه: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} الأحقاف: 31.
يا نفس ويحك قد أتاك هداكِ*** أجيبي فداعي الحق قد ناداكِ
كم قد دعيت إلى الرشاد فتعرضي***وأجبتِ داعي الغي حين دعاكِ
ل ما في الدنيا يذكر بالآخرة فمواسمها وأعيادها وأفراحها تذكر بمواسم الآخرة وأعيادها وأفراحها، صنع عبد الواحد بن زيد طعامًا لإخوانه فقام عتبة الغلام على رؤوس الجماعة يخدمهم وهو صائم فجعل عبد الواحد ينظر إليه ويسارقه النظر ودموع عتبة تجري، فسأله بعد ذلك عن بكائه حينئذ فقال: ذكرت موائد الجنة والولدان قائمون على رؤوسهم فصعق عبد الواحد.