والقاعدة الأخرى في هذا الحديث: "والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه".
جاءت لتقرير معنى الهجرة المستمرة في الإسلام، بعد أن كانت الهجرة المكانية من فروضه، فقد كانت عناية الإسلام في بدء البعثة المحمدية بأن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام أمر حتمي مما جعل لفظ الهجرة والمهاجر إذا أطلق لا ينصرف إلا إلى هذا المعنى، حتى قد ظن أن فضل المهاجَرة يحصل لصاحبها بمجرد هذا الانتقال، ولو لم يعمل بعدها شيئا من أمور الإسلام، فجاءت هذا القاعدة تنبيهًا على خطأ هذا الظن أو الفهم، وعلى تخطئة من يعتنقه أو يدعو إليه، مبينةً أن الهجرة لا يحرز فضلها إلا من أعرض بجوارحه وقلبه عن كل ما نهى الله عنه من الآثام الظاهرة، والباطنة، ومع هذا فلم تترك هذه القاعدة الهجرة المكانية إذا لزمت، بل إنها تصلح أمرا شاملا جامعا للهجرتين المعنوية والحسية؛ لأن كلمة "ما نهى الله عنه" تمتد وتتناول الإقامة في ديار الشرك غير المأمونة على الإسلام، كما تتناول الإلزام بفرائض الإسلام، وسننه وآدابه، فليست قاصرة على امتناع المسلم عن مقارفة الذنوب، بل شاملة لكل المعاصي سلبًا أو إيجابًا.
هذا: ولقد كانت الهجرة إلى دار الإسلام واجبة على من أسلم لقلة المسلمين يومئذ بالمدينة وحاجتهم إلى التجمع، فلما فتح الله مكة ودخل الناس في دين الله أفواجا سقط فرض الهجرة، وكان الجهاد والنية والمثابرة، وكانت هجرة ما نهى الله عنه.
ولعل من أخطر ما في عصرنا مما ينبغي هجره والدعوة إلى نبذه والحذر منه هذه المشاكلة والمشابهة التي يقلد فيها أهل الإسلام غيرهم، فإنها وإن كانت ظاهرية لكنها توجب وتجر إلى مشابهة ومشاكلة في أمور أخرى تصرف عن حقائق الإسلام إلى أباطيل خصومه، وتوجب تنسيقا وتآلفا، وفي ذلك إضعاف لشخص المسلم، وإزهاق لميزاته ومميزاته.
فمن الهجرة المطلوبة الآن في الإسلام أن نهجر تقاليد غيرنا، وأن نتحفظ في تقليدهم في أمورهم الظاهرة حذرا من متابعتهم في أمورهم الباطنة، ولعلّي أوجه هذه الكلمة لمن فُتِنُوا من المسلمين، وافْتُتِنُوا بمحاكاة الأمم غير المسلمة في عاداتهم وأزيائهم وسلوكهم، حتى فيما ينافي المروءة والغيرة يحسبونه هينا وهو باب خطر داهم، ليس في أمر الإسلام عقيدته وشريعته فقط، بل وفي أمر هذه الحياة إذ إن هذه المتابعة دون حذر وتروٍّ طريق انحلال الأمم وفنائها، وتسلط غيرها عليها بعد ذوبان مقوماتها.
ومن هنا ونحن نحتفي بذكرى هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة ينبغي أن نعيد قراءة سيرتها مُتَحَرِّين أهدافها ومقاصدها، وما كان لها من دوافع وما تم من تخطيط، ودراسة أمر هؤلاء الذين شاركوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رحلته أو إمداده أثناء مسيرته بحاجاته، أو بإخفاء طريقه وصرف العيون عن متابعته أو ملاحقته حتى بلغ مأمنه، إذ هؤلاء مدرسة أو مدارس نتلقى منها وعنها كل الخير في الدين والدنيا.
لقد جمع هذا الحديث الشريف قاعدتين أساسيتين في السلوك الإسلامي والإنساني، ينبغي أن نفيء إليهما، وأن نتبعهما وهما بالهجرة ألصق، هجرة السوء وتركه، أيا كان نوعه أو وصفه ونسقه، ومهاجرة إلى الخير بكل طرقه، هجرة إلى الله بعبادته كما فرض وأمر، وبالإحسان في معاملة خلقه كما أرشدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كثير من أقواله، بل وفي سلوكه، ومودته ومحبته للناس وإيثاره إياهم بكل خير والوقوف معهم في كل محنة، والنزوع بهم إلى كل سلوك حميد أو محمود.
فأمعنوا النظر أيها المسلمون في هاتين القاعدتين الجامعتين، ففيهما دواء لعلل المجتمع الإسلامي، بل والإنساني وأسلموا لله تسلموا، واهجروا الخيانة، ما ظهر منها وما بطن في الأقوال والأفعال، واصدقوا مع الله ومع رسوله تنعموا في دنياكم ويوم لُقياكم بربكم، وليصدق القول العمل، وكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ولا تكونوا من هؤلاء وأولئك الذين استمرؤوا الجدل في كل شيء، والانفلات من كل القيم والمبادئ القيمة التي جاء بها القرآن وجرت بها سنة رسول الله، فإنه لا صلاح لهذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فانبذوا الشقاق فقد أنهك الأمة وجعلها نهبا لأعدائها، وكونوا مع كتاب الله؛ ففيه الهدى والرشاد، ومع سنة رسول الله وسلوكه ففيهما الاستقامة والخير، وخذوا بأسباب الصلاح والإصلاح، فقد أضاعتنا الأمنيات والأماني والله معكم ولن يتركم أعمالكم.
وبعد: فليدرس هذه السيرة -سيرة الهجرة- أهل الاختصاص في العلوم المتنوعة، فسيجد كل أولئك نبراسا يهدوننا به في حياتنا المعاصرة التي أسرعت بها الخطا نحو التهور والتدمير، وليدرس أهل الإسلام الهجرة درس استنباط يأخذوا منها الهدى والحل لهذه الأزمات المتلاحقة التي حاقت بالمسلمين، وليأخذوا منها العزم والحزم في مواجهة الصعاب بثبات المؤمنين، مستعينين بالله محتسبين الأجر عند الله، لا يقعدهم اليأس عن مواجهة البأس، وليذكروا أن الكيد للإسلام والمسلمين يأخذ صنوفا من الألوان والشعارات، فلا ينخدعوا، ولا يستسلموا، ولا يفرطوا في حقوقهم وأوطانهم، وليتجمعوا فإن يد الله مع الجماعة، وقديما قال قائلهم: إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
لقد واجهت المسلمين في ماضيهم أزمات أنذرت بالتفرق والشتات.
ولكن بالحكمة والروية والإيثار وليس الأثرة واجه قادة المسلمين تلك الأزمات بهذه الأسلحة.
فلننظر إلى هذا التاريخ تاريخ أولئك الذين شاركوا رسول الله وحملوا معه ومن بعده عبء هذا الدين ونشره، كيف لم تَرُعْهُم الخطوب، وكيف كانت شجاعتهم فوق كل ما داهمهم، فارتفعوا بها فوق النكبات، فانقلبت الفرقة وحدة، والتمزق تجمعا، كان ذلك حين باعدوا بين أنفسهم وبين المآرب والنزوات الشخصية، وتجردوا من الأنانية رعاية لمصلحة الأمة وصونا لوحدتها، وتوحيدا لكلمتها.
إنما يتذكر أولو الألباب، فلنستذكر دروس هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذه المحن التي نعيشها، ولنجتمع على قلب رجل واحد نرأب الصدع، ونجمع الشمل، لا غالب ولا مغلوب وإنما: إحدى يدي أصابتني ولم ترد.
اللهم نشهد أنك الحق، بيدك الملك، وإليك الأمر، اللهم اهدنا إليك واجمعنا حول كتابك وشرعك علما وعملا، وانزع البغضاء والأحقاد من قلوب قادة المسلمين وساستهم حتى يفيئوا إلى أمرك، ويستمعوا إلى ندائك وقولك الحق: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}
=================================================
الموضوع: من الهجرة حسن السلوك.لصاحب الفضيلة الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق -رحمه الله-.
مصدرها: مجلة الأزهر: الجزء الأول، السنة الخامسة والستون، المحرم 1404هـ - أكتوبر 1983م