النفس البشرية ليست معصومة من الزلل بل الخطأ من شيمها ويستوي في ذلك الآدميون إلا من اصطفاهم الله لرسالته فطهر قلوبهم من المعاصي وفي إدراك ذلك المعنى طمأنة للنفس وتسامح معها وحسن ظن بخالقها إن رجعت إليه وطلبت منه الصفح والغفران.. عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» (أخرجه الترمذي وابن ماجه) وهذا العفو يساعد الإنسان أن يستدرك شئون حياته يعد وقوعه في الخطأ أو المعصية ويساعده ألا يتوقف عن شؤم الإحساس بالذنب مبالغا فيه جالدا ذاته فيعطل مسيرة الحياة ويوقع الناس في العنت والشدة وبعد الاعتراف بالذنوب والخطايا أهم ما يعتمد عليه الدين في إصلاح النفس البشرية لأنه يعيد إلى النفس المضطربة طمأنينتها وسكينتها المفقودة.. ولأجل ذلك شرع الاستغفار من الذنوب وحض عليه النبي صلى الله عليه وسلم كوسيلة دائمة تساعد المرء على التسامح مع نفسه والرضا عنها.
وتحكي السيرة النبوية العديد من القصص التي تؤكد هذا المعنى. ومثال على ذلك ما يحكيه أبو هريرة رضي الله عنه فيما أخرجه البخاري ومسلم أنه قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت قال «مالك؟» قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هل تجد رقبة تعتقها؟» قال: لا، قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» قال: لا، فقال: «هل تجد إطعام ستين مسكينا؟» قال: لا. قال: «فمكث النبي صلى الله عليه وسلم فبينا نحن على ذلك أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيها تمر والعرق المكئل- قال: «أين السائل؟» فقال: أنا.. قال: «خذ هذا فتصدق به» فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله فوالله ما بين لابتيها يريد الحرتين أهل بيت أفقر من أهل بيتي. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال: «أطعمه أهلك».
فهذا الصحابي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم يرتجف ويشعر بمصيبة مهلكة وقع فيها لا خلاص له منها. فأخذ النبي يساعده على تهدئة نفسه وإيجاد المخرج والخلاص لها فعدد عليه النبي صلى الله عليه وسلم مسالك التكفير عن هذا الذنب واحدة تلو الأخرى فلم يستطع إتيان أحدها حتى وصل به الحال أن أخذ كفارة ذنبه ليطعمها هو وعياله الفقراء مما يوضح بجلاء أن العقوبة أو الكفارة مقصورة لتصفية نفس المذنب ومساعدته على العفو عن نفسه وكذلك شرعت لأجل الندم والرجوع عن الخطيئة وقد تحقق هذان الأمران في نفس الصحابي فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاه العرق وصرفه.
ويلاحظ أن مسالك التكفير عن الذنب تظهر في شكل أعمال تكافلية يعود نفعها على المجتمع كله وأن النبي صلى الله عليه وسلم ببساطته وسماحته سهل على المؤمن سبيل السكينة والعفو عن ذاته كي يقبل على عمله وإعماره الحياة بقلب منشرح غير قلق ولا متوتر.
وعن ابن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلا وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال: أرجع إلى مكاني فرجع فنام نومة، ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده» (أخرجه البخاري في صحيحه) وفي هذا الحديث تربية على التسامح مع الآخرين والفرح بعودتهم نادمين على خطئهم فالله رب العالمين يفرح بعودة عبده عندما يشعر بضآلته وعظيم جرمه في حق خالقه الذي لا يضره ذنب ولا تنفعه طاعة وإنما فرحه وشكره ورضاه راجع للعبد فضلا وإحسانا. وقد استخدم النبي صلى الله عليه وسلم ضرب المثل البليغ وسيلة تربوية وضمنه معنى التسامح مع النفس ومع الآخرين وحض فيه المسلم على التوبة والرجوع عن الخطيئة.
---------------------------------------------------------------------------------------
أ.د علي جمعة مفتي الديار المصرية