يختلف الناس في بناء أنفسهم وتأسيسها وتربيتها اختلافا بينا,ويظهر ذلك في استقبال المحن والمنح, والنعم والنقم, والترغيب والترهيب, والفقر والغني, والصحة والمرض, وغير ذلك من أحوال الإنسان في هذه الدنيا.
وأقوم الناس طريقة من أسس بنيانه علي تقوي من الله ورضوان; فلا تضره فتنة ولاتزعزعه شبهة ولا تغلبه شهوة, فتجده وقد فهم الحياة نعمة ونقمة, ومحنة ومنحة, ويسرا وعسرا, ثم أقام موازنة, فوجد أن الدهر يومان: ذو أمن وذو خطر, والعيش عيشان; ذو صفو وذو كدر, فضبط نفسه في الحالين: فلم ييأس علي ما فات, ولم يفرح بما هو آت: فلا تجده ذا خيلاء عند غناء, ولا حزنا عند فقره,يقلق من الدنيا, ولا يقلق علي الدنيا أبدا,والسر في ذلك الإيمان الذي إذا خالطت بشاشته القلوب ثبت صاحبه فاطمأن فلا تؤثر فيه الفتن ولا تختلف نفسه باختلاف أحواله إلا بالترقي من مقام إلي مقام.
وإنما بني هذا الصنف من الناس نفسه علي عدة عوامل, منها:
التقرب إلي الله عز وجل بما يجب من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة, وخير ما تقرب به المتقربون الي الله تعالي الفرائض التي فرضها عليهم, ثم إن في النوافل لمجالا واسعا عظيما لمن أراد أن يرتقي إلي مراتب عالية عند الله,وفضل الله واسع يؤتيه من يشاء.
ومن عوامل بناء النفس: محاسبتها محاسبة دقيقة: فالنفس بطبيعتها تميل الي الشهوات,فلابد لها من محاسبة, والكل لا يشك أننا إلي الله راجعون, محاسبون علي الصغير والكبير, قال تعالي:ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفي بنا حاسبين, الانبياء:47] ومن حاسب نفسه علم عيوبها وزلاتها ومواطن الضعف فيها, فبدأ بعلاجها ووصف الدواء لها, فينمي ذلك في النفس الشعور بالمسئولية ووزن الأعمال والتصرفات بميزان دقيق, ألا وهو ميزان الشرع.
ومن أهم عوامل بناء النفس: تعلم القدر المفروض من العلم المقرب إلي الله تعالي والعمل به,واتباع العلماء الحاملين لميراث النبوة. وهذا لأن العبادة بلا علم توقع في سوء فهم للدين بالتشدد الذي يصرف الناس عن دين الله أو بالتساهل الذي يفك عري الدين, وما انتشرت الأفكار الغريبة عن مجتمعنا في هذا العصر إلا عن جهل غير المتخصصين غالبا.
الوقوف علي بعض أخبار العلماء والصالحين من خير الوسائل التي تغرس الفضائل في النفوس, وتدفع النفس الضعيفة إلي تحمل الشدائد والمكاره في سبيل الغايات النبيلة والمقاصد الجليلة, وتبعث فيها روح التأسي بذوي التضحيات في سبيل العلم لتسمو إلي أعلي الدرجات.
ومن عوامل بناء النفس: المداومة علي العمل وإن قل; لأن المداومة علي الأعمال الصالحة والاستمرار عليها تثبيت وترويض للنفس البشرية لمواجهة أعباء الطريق وتكاليفه, وصرف لمكائد الشيطان ونوازعه, فإذا عود المرء نفسه علي الفضائل انقادت له, وإذا تهاون فأقدم مرة وأحجم مرة كان إلي النكوص أقرب, والشيطان إذا رآك مداوما علي طاعة الله عز وجل ملك ورفضك, وإن رآك مرة هكذا ومرة هكذا طمع فيك; فداوم علي الطاعات; فإن الله من فضله وكرمه أنه إذا جاء ما يصرفك عن أداء الطاعات من عجز ومرض وفتنة منح كالأجر كما كنت صحيحا.
ومن عوامل بناء النفس أيضا: مجالسة من رؤيتهم تذكر بالله عز وجل, فمجالستهم تريك ما في نفسك من قصور وضعف وعيوب فتصلحها وتهذبها, فهم زينة الرخاء وعدة البلاء يذكرونك إن نسيت, ويرشدونك إن جهلت, يأخذون بيدك إن ضعفت, مرآة لك ولأعمالك, إن افتقرت أغنوك, وإن دعوا الله لن ينسوك:' هم القوم لا يشقي بهم جليسهم'( صحيح مسلم2069/4).
ومنها: الدعاء فهو أهم عامل في بناء النفس, إذ هو العبادة كما أخبر النبي صلي الله عليه وسلم, وهو من صفات عباد الرحمن المذكورة في قوله تعالي:( والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما), الفرقان:74].
ومن عوامل بناء النفس: تدبر كتاب الله الذي يهدي القلوب والعقول الحائرة (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا), النساء:82], وكذا الوقوف عند أسماء الله الحسني وصفاته العلا:( ولله الاسماء الحسني فادعوه بها), الأعراف:180] فإن وقفة واحدة مع اسماء الله وصفاته الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم ثم التمثل بها, تعلقا وتخلقا وتحققا, كل ذلك يبني النفس بناء لا يتزلزل ولا يحيد.. فاللهم ابن أنفسنا بناء ينزع منها كل قبيح, ويغرس مكانه كل مليح, ويبصرنا بكل ما هو صحيح صريح, إنك نعم المولي ونعم النصير.
-----------------------------------------------------------------
بقلم: د. علي جمعة