حديث النفس أو الكلام النفسي, هو تلك المعاني القائمة بنفس المتكلم, قبل أن يعبر عنها بالألفاظ والكلمات, والذي لديه نوع من الدراية بعلوم المنطق, يعلم أن الدلالة هي: فهم أمر من أمر.
أي: فهم المعني أو المدلول من الدال وهو اللفظ أو ما يقوم مقامه من الاشارات والتعبيرات الخ. وشواهد هذا في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة, وفي كلام العرب الكثبر.
فأما ما جاء في القرآن الكريم, فمنه قوله تعالي في حق أخوة يوسف عليه السلام:" قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل, فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم.."( سورة يوسف: آية7).
ومعني كلام إخوة يوسف أن أخاه بنيامين إن كان قد سرق صواع الملك وقد وجد في رحله, فإن يوسف عليه السلام أخاه قد سرق من قبل, وهذه القضية لها قصة طويلة ذكرتها كتب التفسير, وكانوا حين قالوا هذا القول لم يعرفوا يوسف عليه السلام بعد, فأسر في نفسه هذا القول, لأنه لم يسرق من قبل كما ادعوا, وإنما أخذوا ذلك من أفواه العامة, دون أن يتثبتوا من ذلك, وما أسره يوسف عليه السلام, هو قوله الصريح بعد ذلك.. قال: أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون وكون هذا الكلام قد أقيم في نفس يوسف قبل أن يتلفظ به, فإنه هو المعني بالكلام النفسي, ويسميه العرب الاضمار قبل الذكر.
ـ وأما ما جاء في الحديث فمنه رفع عن أمتي الخطأ والنسيان, وما حدثت به نفسها وفي الحديث القدسي, يقول الله تعالي "أنا عند حسن ظن عبدي بي, فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي, وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه". فما حدثت به الأمة نفسها هو من الكلام النفسي, وذكر العبد لربه في السر هو من قبيل الكلام النفسي كذلك.
ـ وأما ما جاء في كلام العرب فمنه:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما...
جعل اللسان علي الفؤاد دليلا
ومنه: جزي بنوه أبا الغيلان عن كبر
وحسن فعل كما يجزي سنمار
* فسنمار أحد الذين يضرب بهم المثل فيمن جوزي علي الفعل الحسن بالفعل القبيح, وقد كان رجلا يتقن فن البناء, فلما انتهي من تشييد قصر منيف لأحد الأغنياء, قتله حتي لا يفعل مثله لغيره, حسدا من عند نفسه. وتأصيل المعني للكلام النفسي علي الوجه السابق.
يكفينا في هذا السياق, لننتقل منه إلي ما نريد أن نفصح عنه في هذا المقال. فنقول: إن دلالات الألفاظ والأحاسيس والاشارات, كلها تعبير عن المعني القائم بالنفس, غير أنها ليست جميعا علي درجة واحدة من بيان المخزون النفسي وراء دلالاتها. فالغضب المكنون والغيظ المكظوم أقوي بكثير من قول الغاضب أنا غضبان, وكذلك في كاظم الغيظ, بل في كل أحوال التعبير غير اللفظي فإذا ذهبنا إلي استقراء ما في نفوس المظلومين والمقهورين والمضطهدين الذين بحت أصواتهم ولم يسمع لشكواهم, فكيف يمكن أن نقيس ما تعتمل به نفوسهم من معان سلبية تجاه من سلبوهم حقوقهم؟ ثم ما حجم اليأس الذي يملأ نفوس المقهورين الذين إذا صرخوا وعلوا بأصواتهم, فكأنهم يصرخون في واد أو ينفخون في رماد؟
إن المثيرات التي تولد هذه التصورات البائسة واليائسة عند البائسين واليائسين, كثيرة. ولنا أن ننظر إلي واقعنا الحي المعيش, إذ كيف يغمض النوم عين الجائع, الذي كاد يموت مسبغة وفقرا, علي حين يري ثريا جمع ماله بطريق غير مشروع, ففاضت خزائنه, وكثرت موائده, الحمراء منها والخضراء؟ وكيف تسكن أناة مريض أضناه المرض, حتي كاد يصبح أثرا بعد عين وكيف وكيف؟
ـ إن الاستفهام بأداة كيف يطول لو حللنا الظواهر المجتمعية السلبية في كل مرافق الدولة, وحسبنا أن نترك كيف بعد أن مللت كثرة استعمالها هنا, لنستبدل بها حرف الاستفهام هل فنقول: هل من المعقول أن نسمي أنفسنا بالدولة المتدينة ذات المساجد والمآذن الكثيرة والعالية, والكنائس والأجراس والتي فاقت دور العبادة فيها حد المطلوب, حتي أصبحنا نلاحظ تكرر هذه الدور دون أن يكون لها تأثيرها الروحي والأخلاقي في نفوسنا وسلوكنا؟ وبالتالي هل أصبح تديننا شكليا إلي تلك الدرجة التي تواري وراءها ما يحمله الاسلام العظيم والمسيحية الحقيقية من زاد روحي كفيل بأن ترق له الجبال الشماء والصخور الملساء خشية لله تعالي؟
بقلم : د. محمد عبدالستار نصار