لقد روي عن بعضهم: أنه كان يتأتى له أن يكتب في تفسير الفاتحة وحدها حمل بعير من الأسفار ، ولكنه لم يفعل ، كذلك لم يفعل كبار الصحابة حتى لا تتدخل البشرية المحدودة في المجال الإلهي اللا محدود ، ومما لا ريب فيه أن التفسير تحديد ، و أن الشرح تقييد ، وأن التأويل يتخلله عنصر التخمين ، وذلك كله تحديد لما لا يمكن أن يحد ، وتقييد للإنطلاق النوراني ، وتخمين في مجال يتسامى عن التخمين :
(قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) (1)
(وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (2)
أرأيت إلى شعاع الشمس فياضاً مسترسلاً ، يغمر الكون بلألائه الذهبي ، لا يحجبه غيم و لا يستره حجاب ؟ أرأيت إلى ضوء القمر فياضاً متألقاً ، لا يستره سحاب ولا يحجبه شئ ؟ أرأيت إلى النور والضياء ينزل من السماء مباشرة صافياً نقياً فيتلقاه الإنسان ، وينعم به ؟ إن مثل ذلك كمثل نور القرآن ولألائه ، يصل إلى القلب مباشرة يطبعه طابع الجلال الإلهي والجمال الرباني لا يحجبه شرح ، ولا يستره تفسير ، ولا يحول بينه وبين القلب تأويل متحكم ، ولا تتدخل فيه البشرية بأي نوع من أنواع نقصها وقصورها.
وتجنب كبار الصحابة إذن أن يصل القرآن إلى قلوب الناس من خلال شروحهم وتأويلاتهم توجهه بشريتهم وتحدده أذهانهم.
ولقد أنزل الله القرآن ، لنعمل بما فيه ، لا لنتبارى في جعله كتابا في علم الكلام نضرب بعضه ببعض ، لننتهي برأي بشري يعارضه رأي بشري ، قام هو الآخر على جعل كتاب الله كتاباً في علم الكلام ، أخذ يضرب بعضه ببعض.
لقد أنزل الله القرآن هداية ، لنعمل بآياته المحكمات اللواتي هن أم الكتاب ، ولنبتعد عن الخوض فيما تشابه منه ، ولنجعله في كل حالة من الحالات إماماً نلتزم هديه ونتخلق بأخلاقه ، حتى نكون نحن قرآناً ، متأسين في ذلك برسول الله صلوات الله عليه ، الذي كان على وجه الأرض قرآناً كريماً.
_______________
(1) سورة الكهف آية: 109.
(2) سورة لقمان آية: 27.