معنى من لم يكفر الكافر فهو كافر:
=====================
من العبارات التي اشتهرت على ألسنة من يلهبون الناس بسياط التكفير قولهم:" من لم يكفر الكافر فهو كافر"(1).
وجعلوا هذه القاعدة مسوغًا لتكفير من يخالفهم في رأيهم . وحقيقة إن هؤلاء الناس لم يحسنوا إنزال هذا القول مترله ولم يجيدوا فهمه، فلزم بيان المفهوم الصحيح بالأدلة الصريحة، ومن خلال أقوال العلماء الذين نسبت إليهم هذه القاعدة.
وهذه القاعدة قد دل عليها القرآن وذكرها الشيخ ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب في مؤلفاتهم، وقرأ الشباب بعض هذه المؤلفات، لكنهم لم يحسنوا فهم القاعدة ولا تطبيقها فجنوا على الناس . فلزم بيان المراد من هذه القاعدة، وبأقوال الإمام الصريحة.
المراد بالكافر الذي من لم يكفره يكون مثله : هو الشخص المقطوع بكفره الذي توفرت فيه جميع الشروط وانتفت عنه جميع الموانع، ومن كان كافرًا من البداية ولم يدخل في الإسلام أبدًا مثل فرعون، أبي جهل، أبي لهب، ماركس...
فمن لم يكفر هؤلاء وأمثالهم فهو مثلهم.
أما الشخص الخفي حاله لإظهاره الإسلام مثلا وإبطانه الكفر وكراهيَة الإسلام. فمثل هذا الشخص من اطلع على حاله وعرف حقيقته في مجالس خاصة للقرب منه، وتحقق من وجود الشروط، وانتفاء الموانع وجب عليه اعتقاد تكفيره.
ومن لم يطلع، وشهد له بالإسلام فلا إثم عليه لأنه شهد بما علمه، ولنا الظاهر والله يتولى السرائر.
وقد كان المنافقون يعاملون بما يعامل به المسلمون، لأنهم كانوا يظهرون الإسلام ولا يعلنون كفرهم بل يبطنونه. وقد دلت أعمال أئمة السلف على أن المراد بالكافر هو المقطوع بكفره لا المختلف فيه. إذ المختلف في تكفيره لا يكُفر من لم يكفره، ودليل ذلك:
أن الإمام أحمد كان يرى كفر تارك الصلاة وكان الأئمة الثلاثة لا يرون كفره، وقد دارت مناقشة بين الإمام الشافعي والإمام أحمد حول هذه المسألة. فهل حكم أحمد على الشافعي بالكفر لعدم تكفيره تارك الصلاة؟ بالطبع لا. وخير دليل يبطل الفهم الخاطئ الذي ذهب إليه بعض الشباب هو هذا الدليل. وقبل أن أذكره لنتفق على هذه القاعدة وهي:" خير من يفسر كلام المرء ويوضح مقصوده هو المرء نفسه ".
والآن إليك نبذة من أقوال الشيخ محمد بن عبد الوهاب توضح منهجه في الدعوة، وينفي بها عن نفسه ما نسب إليه زورًا وبهتانًا من تكفير من لا يستحق ذلك ويبين الشيخ براءته مما نسب إليه من التكفير بالباطل، فينكر ذلك بأسلوب شديد ويبين صفات من يحكم عليهم بالكفر، ويؤكد أن أكثر الأمة ليس فيها هذه الصفات ويحمد الله على ذلك.
قال الشيخ - محمد بن عبد الوهاب في رسالته إلى السُّويدي البغدادي :" وما ذكرت أني أكفر جميع الناس إلا من اتبعني وأزعم أن أنكحتهم غير صحيحة: فيا عجبًا، كيف يدخل هذا في عقل عاقل؟ إلى أن قال : وأما التكفير : فأنا أكفر من عرف دين الرسل ثم بعدما عرفه
سبه، ونهى الناس عنه، وعادى من فعله وهذا هو الذي أكفره، وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك."(2)
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب : ثم لا يخفى عليكم أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم قد وصلت إليكم، وأنه قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم من جهتكم ، والله يعلم أن الرجل قد افترى علي أمورًا لم أقلها، ولم يأت أكثرها على بالي، فمنها قوله : إني مبطل كتب المذاهب الأربعة، وإني أقول : إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء، وإني أدعي الاجتهاد ، وإني خارج على التقليد، وإني أقول : إن اختلاف العلماء نقمة، وإني أكفر من توسل بالصالحين، وإني أكفر البوصيري لقوله: يا أكرم الخلق.(3)
وأني أقول : لو أقدر على هدم قبة رسول الله –صلى الله عليه و سلم- لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها، وجعلت لها ميزابًا من خشب. وأني أحرم زيارة قبر النبي–صلى الله عليه و سلم- وأني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما. وأني أكفر من حلف بغير الله، وأني أكفر ابن الفارض، وابن عربي وأني أحرق دلائل الخيرات وروض الرياحين، وأسميها الشياطين.
جوابي عن هذه المسائل: سبحانك هذا بهتان عظيم.
وقال أيضا: وما ذكرت أني أكفر جميع الناس إلا من اتبعني، وإني أزعم أن أنكحتهم غير صحيحة !! فيا عجبًا كيف يدخل هذا في عقل عاقل؟ ! وهل يقول هذا مسلم؟ إني أبرأ إلى الله من هذا القول الذي ما يصدر إلا عن مختل العقل، فاقد الإدراك، فقاتل الله أهل الأغراض الباطلة وكذلك قولهم : إني أقول: لو أقدر على هدم قبة النبي الله –صلى الله عليه و سلم- لهدمتها.
وأما دلائل الخيرات وما قيل عني أني أحرقتها، فله سببان: وذلك أني أشرت على من َقبل نصيحتي من إخواني ألا يصير في قلبه أجل
من كتاب الله، ولا يظنن أن القراءة فيه أفضل من قراءة القرآن وأما إحراقها للنهي عن الصلاة على النبي –صلى الله عليه و سلم- بأي لفظ كان، فنسبة هذا إليَّ من الزور والبهتان. (4)
تلك قواعد مهمة ينبغي مراعاتها قبل النظر في مسألة التكفير . وهي قواعد اتفق عليها العلماء واعتبروها في أحكامها، لذلك عصمتهم من الزلل، ووَقتهم من السقوط في هاوية التكفير، وثبتتهم على الصراط المستقيم، والطريق السوي،والسبيل القويم الذي لا عوج فيه ولا انحراف.
وأحب أن أختم هذا الباب بكلمة جامعة لابن تيمية فيقول:" إن كل من أقر بالله فعنده من الإيمان بحسب ذلك، ثم من لم تقم عليه الحجة بما جاءت به الأخبار لم يكفر بجحده، وهذا يبين أن عامة أهل الصلاة مؤمنون بالله ورسوله- وإن اختلفت اعتقاداتهم في معبودهم وصفاته - إلا من كان منافقًا- يظهر الإيمان بلسانه ويبطن الكفر بالرسول - فهذا ليس بمؤمن، وكل من أظهر الإسلام ولم يكن منافقًا فهو مؤمن له من الإيمان بحسب ما أوتيه من ذلك، وهو ممن يخرج من النار ولو كان في قلبه مثقال ذرة من الإ يمان، ويدخل في هذا جميع المتنازعين في الصفات والقدر على اختلاف عقائدهم ولو كان لا يدخل الجنة إلا من يعرف الله كما يعرف نبيه –صلى الله عليه و سلم-لم تدخل أمته الجنة، فإنهم أو أكثرهم لا يستطيعون هذه المعرفة، بل يدخلونها وتكون منازلهم متفاضلة بحسب إيمانهم ومعرفتهم.
وإذا كان الرجل قد حصل له إيمان يعرف الله به، وأتى آخر بأكثر من ذلك عجز عنه لم يحمل ما لا يطيق، وإن كان يحصل له بذلك فتنة لم يحدث بحديث يكون له فيه فتنة.
فهذا أصل عظيم في تعليم الناس ومخاطبتهم بالخطاب العام بالنصوص التي اشتركوا في سماعها كالقرآن والحديث المشهور و هم مختلفون في معنى ذلك والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه.(5)
==============================================
1- ظاهرة الغلو في الدين ص2.
2- مصباح الظلام ص43
3- يقصد قوله رحمه الله:" يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمِمِ "
4-الدرر السنية في الرسائل والمسائل النجدية. 1\33-34, 80-81
5-الفتاوى(5\254-255)