اسمه:
محمد بن محمد أمين بن محمد المهدي العباسي الحنفي.
الميلاد:
وُلِدَ بالإسكندرية سنة 1243هـ.
نشأته ومراحل تعليمه:
كان جدُّ الإمام محمد المهدي العباسي مسيحيًّا إلا أنه أسْلَم على يد الشيخ الإمام محمد الحفني وهو يافع، فضمَّهُ الشيخُ إلى أسرته، وأقبل على الدراسة الإسلامية، وحفظ القرآن الكريم وتتلمذ على الشيخ الحفني، وعلى أخيه الشيخ يوسف وغيرهما مثل الشيخ علي الصعيدي العدوي، والشيخ عطية الأجهوري، والشيخ الدردير، حتى أصبح من كبار العلماء.
ولما توفي الشيخ الإمام الشرقاوي أجمع كبار العلماء على ترشيحه(1) لمشيخة الأزهر، ولكن الوالي محمد علي باشا آثر بها الشيخ الشنواني.
قال الجبرتي عن محمد (الجد) ومحمد (الأب) للإمام: كان من فحول العلماء، يُدَرِّس الكُتُب الصعاب في المعقول والمنقول بالتحقيق والتدقيق، وأنجب ابن محمد أمين والد الإمام، وكان من العلماء المرموقين، وتولَّى منصب الإفتاء.
ثم أنجب هذا الابن (وهو محمد أمين الذي تولى منصب الإفتاء) ابنه محمدًا (وهو الإمام الذي تولَّى مشيخة الأزهر) بالإسكندرية فقرأ بها بعض القرآن، ثم حضر إلى القاهرة سنة 1255هـ فأتم حفظه واشتغل بالتعليم سنة 1256هـ، فقرأ على الشيخ إبراهيم السقا الشافعي، وعلى الشيخ خليل الرشيدي الحنفي، وغيرهم.
ولما ولي إبراهيم باشا بن محمد علي باشا ولاية مصر استدعاه إليه وأصدر أمرًا بأن يتولَّى منصب الإفتاء في منتصف شهر ذي القعدة سنة 1264هـ = 12 أكتوبر سنة 1848م ، وهو في نحو الحادي والعشرين من عمره، ولما يتأهل لهذا المنصب الكبير، وعزل من هذا المنصب الشيخ أحمد التميمي الخليلي، وخلع على الشيخ محمد المهدي خلعة هذا المنصب، ثم عقد له مجلسًا بالقلعة حضره حسين باشا المنسترلي والشيخ الإمام مصطفى العروسي وغيرهما، فاتفقوا على إقامة أمين للفتوى يقوم بشؤونها حتى يتأهل لها صاحبها ويباشرها بنفسه، واختاروا لهذه الأمانة الشيخ خليل الرشيدي.
ونزل الشيخ محمد المهدي العباسي من القلعة في موكب كبير من العلماء والأمراء، ووفد عليه كبار القوم والعلماء للتهنئة ومدحه الشعراء، ومن الغريب أن الوالي إبراهيم باشا استدعاه لولاية هذا المنصب -الإفتاء- وهو جالس في حلقة أستاذه الشيخ السقا يتلقى عنه العلم.
والإمام الشيخ محمد المهدي العباسي كان يتمتع بذكاء حاد، وبتحصيل علمي وافر، ولكن حداثة سنه جعلت ولايته لهذا المنصب غريبة، ولم تكن موهبته العلمية هي التي رشحته لهذا المنصب في هذه السن المبكرة، وإنما الذي رشحه لذلك هو أن عارف بك الذي تولى القضاء بمصر كانت له صلة صداقة بالشيخ محمد أمين المهدي، والد الشيخ الإمام فلما ذهب إبراهيم باشا إلى القسطنطينية ليتسلم من السلطان مرسوم ولايته على مصر، قابله عارف بك -وكان إذ ذاك شيخًا للإسلام- فأوصاه خيرًا بذرية الشيخ المهدي، وأن يولي منهم من يصلح لمنصب أبيه، وحرص إبراهيم باشا على إرضاء شيخ الإسلام، فعزل المفتي وولَّى الشيخ محمد المهدي مكانه، ولا ينتقص هذا التصرف مكانة الشيخ المهدي، فإن علمه وصلاحه وتقواه رفعته إلى أكبر من منصب الإفتاء، فصار شيخًا للأزهر سنة 1287هـ.
ولقد كانت ولايته منصب الإفتاء حافزًا للشيخ على الانكباب على القراءة والبحث والدرس حتى بلغ مكانة الصدارة بين العلماء، وأصبح جديرًا كل الجدارة بمنصب الإفتاء، وجلس للتدريس بالأزهر، فقرأ كتاب الدر المختار، وهو من أهم مصادر الفقه الحنفي، كما قرأ عدة من أمهات الكتب، وباشر أمور الفتوى عن جدارة واستحقاق.
أوصافه الخَلْقِيَّة:
كان الشيخ الإمام محمد المهدي العباسي -رحمه الله- ربْعَة أقرب إلى الطول، مليح الوجه، منوَّر الشيبة، معتدل القامة، ذا هيبة ووقار.
أخلاقه:
اشتهر الإمام الشيخ محمد المهدي العباسي بالعفة والأمانة والدقة، واشتهر بين الناس بالحزم والعزم، وعدم ممالأة الحكام، فكانت لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان شديد المحافظة على كرامته وكرامة منصبه الكبير.
ومن أروع الأمثلة على ذلك وقوفه في وجه الوالي عباس الأول، فقد طمع هذا الوالي في الاستيلاء على ثروة أسرة محمد علي التي ورثوها عن جدهم هذا، وكانت حجته في الاستيلاء على هذه الثروة أن جده محمد علي وفد إلى مصر لا يملك شيئًا، فكل ما خلفه لذريته إنما هو من مال الأمة ويجب رده إليها ووضعه بيد حاكم الأمة لينفقه في مصالحها، وهي كلمة حق يراد بها باطل، وأراد حمل المفتي على إصدار فتوى تؤيد رأيه فرفض الشيخ الفتوى بذلك وأصرَّ على الامتناع، فهدده بالعقاب الرادع فلم يأبه له، فاستعمل معه الوسائل الإرهابية، فلم يحفل بما تعرض له من إرهاب، ثم انجلت المحنة فكان موقفه منها سببًا في علو قدره، وسمو مكانته، وإعظام الولاة والحكام لشأنه.
منزلته:
للشيخ محمد المهدي العباسي مكانة سامية لذا منحه الباب العالي كسوة التشريف من الدرجة الأولى، كما منحه الوسام العثماني الأول في 21 من صفر سنة 1310هـ = 13 سبتمبر سنة 1892م.
وكثيرًا ما كان يتدخل لدى الحُكَّام لدفع المظالم حتى قبل ولايته لمشيخة الأزهر، ومن ذلك أن الشيخ الإمام مصطفى العروسي استصدر وهو شيخ للأزهر أمرًا من الخديوي إسماعيل بنفي الشيخ حسن العدوي إلى إسنا، وكاد هذا النفي يتم لولا أنه استغاث بالشيخ المهدي، فأغاثه وذهب إلى الخديوي متشفعًا وألَحَّ في الرجاء حتى صدر قرار بالعفو عن الشيخ العدوي.
وكان الحكام يستشيرون الشيخ الإمام المهدي في معضلات الأمور حتى غير العلمية منها، لما ألفوه فيه من غزارة العلم، وجودة الرأي، وصدق النصيحة والتقوى والصلاح.
مؤلفاته:
- الفتاوى المهدية في الوقائع المصرية، وتضمُّ علمًا غزيرًا وثروة فقهية طائلة، وهي مطبوعة بالقاهرة سنة 1301هـ في ثمانية أجزاء كبيرة.
- رسالة في تحقيق ما استتر من تلفيق في الفقه الحنفي.
- رسالة في مسألة الحرام على مذهب الحنفية.
ولايته للمشيخة:
لما تم عزل الشيخ مصطفى العروسي من المشيخة تطلع إليها الشيخ العدوي، ولكن الخديوي إسماعيل ولَّى الشيخ محمد المهدي شيخًا للأزهر مع بقائه في منصب الإفتاء، وبهذا كان أول من جمع بين المنصبين، كما كان أول حنفي تولَّى مشيخة الأزهر، وقد كرَّمه الخديوي إسماعيل فخلع عليه الخلع وأحاطه بالتجلة والاحترام.
وقد باشر الإمام الشيخ محمد المهدي عمله بحزم وعزم وتدبر، فبدأ تنظيم شؤون الأزهر الإدارية والمالية، فأعاد لأهل الأزهر كل ما لهم من المرتبات الشهرية والسنوية، وكان حازمًا في إنفاق أموال الأوقاف على مستحقيها بالأزهر، مع التقيد بشروط الواقفين دون تلاعب من الحكام، ولم يزل الإمام الشيخ قائمًا بعمله في المشيخة والإفتاء حتى قامت الثورة العرابية فلم يتجاوب معها فطلب عرابي من الخديوي عزله، فأجاب طلبه في شهر المحرم من سنة 1299هـ = ديسمبر 1881م، وولَّى بدله الشيخ الإمام الإنبابي، وانفرد الشيخ المهدي العباسي بالإفتاء فقط، ولما اشتدت الثورة العرابية كتب العلماء وقواد الثورة قرارًا بعزل الخديوي، وطلبوا منه توقيعه فرفض، ولعله كان يرى أن الذي يملك عزل الخديوي هو الخليفة العثماني وحده، فانحرف عنه العرابيون ووضعوه تحت الرقابة، فاحتجب في داره التي كانت واقعة على الخليج بالقرب من مدرسة الفخري المشهورة بجامع البنات، وتحاشى الناس زيارته فكان لا يخرج من بيته إلا لصلاة الجمعة في أقرب مسجد إليه.
ولما عاد الخديوي إلى الحكم بعد انتهاء الثورة العرابية، عرف للشيخ الإمام حقه وقدر له وفاءه، فلما ذهب العلماء لتهنئة الخديوي ذهب الإمام الشيخ محمد المهدي العباسي معهم فخصه من دونهم بمزيد من الترحيب والرعاية، وكان بينهم الإنبابي شيخ الأزهر، فلما رأى ذلك خشي أن يعزله الخديوي ليعيد الشيخ الإمام العباسي فاستقال بعد أيام، فأصدر الخديوي قرارًا بإعادة الشيخ العباسي إلى منصب شيخ الأزهر إلى جانب بقائه في الإفتاء، وقد حفظ لنا تيمور باشا نص هذا القرار. وظل الشيخ يباشر عمله في تولي مشيخة الأزهر مرة أخرى حتى سنة 1304هـ فقد علم الخديوي أن جماعة من الكبراء يجتمعون للسمر في بيت الإمام الشيخ المهدي العباسي، فيتكلمون في الأمور السياسية، ويُظهرون سخطهم على الاحتلال البريطاني وعلى ممالأة الحكومة المصرية له، ثم قابل الإمامُ المهدي الخديوي في إحدى المناسبات الاعتيادية فتجهم الخديوي له، ولما هَمَّ الإمام المهدي بالانصراف قال له الخديوي: يا حضرة الأستاذ الأجدر بالإنسان أن يشتغل بأمور نفسه، ولا يتدخل فيما لا يعنيه ويجمع الجمعيات بداره، فقال له الشيخ الإمام: إنني ضعفت عن حمل أثقال الأزهر، وأرجو أن تعفوني منه. ولم يكن الخديوي يتوقع منه هذا الرد، فغضب وقال مُسْتَفْهِمًا: ومن الإفتاء أيضًا؟ فقال له الإمام: نعم، ومن الإفتاء أيضًا، ثم انصرف.
ثم أمر الخديوي بإعادة الشيخ الإنبابي للأزهر مرة أخرى، وإقامة الشيخ محمد البنا في الإفتاء.
وبقي الشيخ الإمام المهدي بداره فترة حتى أعيد إلى الإفتاء، ثم أصيب بالفالج إلى أن توفي.
وكانت مدة ولاية الشيخ المهدي العباسي لمشيخة الأزهر ثمانية عشر عامًا، وولايته الإفتاء كانت أربعين عامًا من سنة 1264 هـ إلى سنة 1304هـ.
استصداره أمرًا بوضع قانون تنظيم امتحان مَنْ يريد التدريس بالأزهر.
استصدر الإمام الشيخ محمد المهدي العباسي أمرًا من الخديوي بوضع قانون للتدريس فاستجاب له، وكان الأمر قبله قائمًا على أن من آنس في نفسه القدرة على التدريس تصدى له، فألقى درسًا بحضرة شيوخه، فإذا أذنوا له ظل قائمًا بعمله، وكان هذا الأسلوب يفتح ثغرات في النفوذ إلى منصب التدريس، ولهذا اندس بين العلماء من لا يستحق هذه المنزلة.
فكان الشيخ الإمام المهدي العباسي هو أوَّل من سَنَّ قانونًا بتنظيم الامتحان، وقد راعى في هذا القانون الأخذ بأطراف من التقاليد القديمة، مع ما جدد فيه ومع الدقة والحزم ومراعاة الأمانة المطلقة في الامتحان.
اقتضى قانون الامتحان تعيين ستة من أكابر العلماء الموثوق بأمانتهم وعلمهم، من كل مذهب اثنان إلا مذهب ابن حنبل لندرة طلبته، وجعل الامتحان في أحد عشر علمًا من العلوم المتداولة بالأزهر، وهي: التفسير، والحديث، والتوحيد، والفقه، وأصول الفقه، والنحو والصرف، والمعاني والبيان والبديع، والمنطق، ومن كان يريد أداء الامتحان لا بد أن يكون قد درس هذه الفنون بالجامع الأزهر، وأن يكون دارسًا لمصادرها الكبرى، مثل السعد في البلاغة، وجمع الجوامع في أصول الفقه، وعليه أن يُقدِّم طلبًا لشيخ الأزهر يذكر فيه أنه يريد الدخول في زمرة العلماء المدرسين وأنه حضر كذا وكذا من الفنون، وحضر مختصر السعد وابتدأ في جمع الجوامع مثلا فيؤخر الشيخ ذلك الطلب حتى يستخبر عن أحواله ممن يعرف حقيقة أمره، ثم يكتب إلى مشايخه لإبداء رأيهم فيه ولا بد أن يشهد له جمع من المشايخ أقلهم ثمانية، ثم يعين له من كل فن درسًا، ويُلقي الطالب الدرس المطلوب بوصفه أستاذًا، ويمثل العلماء دور الطلبة فيسألونه ويجيب، ولا يحضر المجلس غيرهم، فإذا أجاب في كل فن نال التقدير من الدرجة الأولى، وإذا أجاب في أكثر الفنون كتب من الدرجة الثانية، وإذا أجاب في الأقل كُتب من الدرجة الثالثة، والأغلبية العظمى من الناجحين نالوا الدرجة الثالثة، وقليل منهم من نال الدرجة الثانية، وأقل من القليل أو النادر من نال الدرجة الأولى، وعدد ممن كانوا يتقدمون لا ينجحون إلا بعد عدة محاولات، وكان من المستحسن ألا يُقبل طلب في الامتحان أكثر من ستة في العام، فإذا زادت الطلبات لأداء الامتحان اختار الشيخ عددًا منهم ويتم الاختيار على أساس الشهرة بالعلم أو كبر السن، والذي يظفر بالدرجة الأولى في الامتحان يرسله الأزهر إلى المعية الخديوية، فتكتب له شهادة تشريف مُتَوَّجة بخاتم الخديوي الأعظم تكون مع الناجح الممتاز، ويمنحه الخديوي خلعة، ويمنحه شريطًا مزينًا بالقصب يضعه في عمامته، ويكتب للجهات المختصة باحترامه، وينال تخفيضًا في أجرة السفر بالقطارات.
وفاته:
توفي الإمام محمد المهدي العباسي -رحمه الله- ليلة الأربعاء 13 من رجب سنة 1315هـ = 7 ديسمبر سنة 1897م ، عن اثنتين وسبعين سنة، بعد أن لازمه المرض أربع سنوات، فأذَّن المؤذن على المآذن إعلامًا بوفاته، وحزن الناس لموته حزنًا شديدًا، وتكاثرت الحشود على داره للاشتراك في تشييع جنازته حتى بلغ عدد المشيعين زهاء أربعين ألفًا، ودُفن بزاوية الأستاذ الشيخ الإمام الحفني إلى جوار أبيه وجده، بقرافة المجاورين، ورثاه كثير من شعراء عصره، وقد جمع الشيخ الموصلي هذه المراثي في كتاب سماه (المراثي الموصلية في العلماء المصرية) جمع فيها بعض المراثي التي قيلت في بعض العلماء الذين ماتوا في سنة وفاة الشيخ الإمام المهدي العباسي.
وقد مات الشيخ الإمام المهدي -رحمه الله- عن ثروة طائلة ورثها عن أبيه وجده ونمَّاها، وكان بيته مفتوحًا أمام جميع الراغبين، ولم تخل مائدته يومًا من الطاعمين.
مصادر ترجمته:
- الأزهر في اثني عشر عامًا، نشر إدارة الأزهر.
- الأعلام للزركلي 7/75.
- الخطط التوفيقية 17/ 10.
- شيوخ الأزهر، تأليف: أشرف فوزي.
- كنز الجوهر في تاريخ الأزهر، تأليف: سليمان رصد الحنفي الزياتي.
- مرآة العصر في تاريخ ورسوم أكابر الرجال بمصر، تأليف: إلياس زخورة ص 225.
- مشيخة الأزهر منذ إنشائها حتى الآن، تأليف علي عبد العظيم.
---------------------
(1) هذا الكلام عن محمد المهدي الجد الذي كان مسيحيَّا ثم أسلم، وليس عن محمد المهدي الحفيد الذي تولى مشيخة الأزهر فيما بعد.