Mohammed Ali عضو الماسي
| موضوع: الإصلاح بين الناس الجمعة أبريل 23, 2010 8:06 am | |
| عن أم كُلثوم بنت عُقبة بن أبي مُعَيط -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيَنْمي خيرا أو يقولُ خيرا». قالت: "ولم أسمعه يرخِّص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: يعني الحربَ، والإصلاحَ بين الناس، وحديثَ الرجل امرأتَه وحديثَ المرأة زوجَها". رواه الشيخان(1). المفردات نَمى الحديثَ يَنميه -بالتخفيف- بلغه على وجه الإصلاح والخير، ونمَّاه ينمِّيه، وكذلك نمَّه يَنُمُّه ويَنِمُّه -بالتشديد فيهما-: بلغه على وجه الإفساد والشر. و"أو" للشك من الراوي في أي اللفظين قال النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تدل كما قلنا في أمثالها على العناية والضبط، وتحري ألفاظه صلوات الله وسلامه عليه، وفي هذا أبلغ رد على من يزعم أن الأحاديث المروية بألفاظها قليلة معدودة.
المعنى أمرٌ عظيم الشأن، جليل الخطر، أعظمه العرب في الجاهلية، ورفع النبي -صلى الله عليه وسلم- مكانه في الإسلام، ذلك هو الإصلاح بين الناس. طبائع الناس متفاوتة ورغباتهم متضاربة، وأهواؤهم شتى؛ فلا جرم أنهم يتنازعون ويتقاتلون ما بقي على ظهر الأرض نفس منفوسة:
{وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}. وغني عن البيان ما تنطق به الشواهد، وما تكشف عنه الحوادث من آثار الخلاف في الأسر والجماعات، والأحزاب والأمم.
إنه ليقع في الأسرة الواحدة بين الزوجين أو الأخوين، فيُظلم البيت، وتقطع الأرحام، وتشرد الأطفال، وتسوء الحال، وإنه ليقع بين الجارين أو الشريكين أو الصاحبين، فينصرم حبل المودة، وتنفصم عروة المَحبة، ويغلي مِرجل العداوة والبغضاء، وكفى بذلك تنغيصا للعيش، واضطرابا في الحياة، وإنه ليقع بين الحزبين أو البلدين، فيكون الطعان واللعان، والزور والبهتان، حتى تتعطل المصالح وتقع الأمة في الهاوية.
وإن الخلاف ليكون -وما أسوأ ما يكون- بين الأمتين أو القطرين، فيسوء الجوار، ويعم الدمار، وتشتعل نار الحرب التي تهلك الحرث والنسل، وتأتي على الأخضر واليابس، فلا تأبى أن تحصد شيخا فانيا أو طفلا باكيا.
وإذا كان الخلاف في أغلب أحيانه شرا لا بد منه، وداء لا محيص عنه، فمن رحمة الله بعباده وقد ابتلاهم به -وله الحكمة البالغة- أن يرشدهم إلى دواء يطبه، فيزيل سَوْرته، ويخفف وطأته، إن لم يستأصل شأفته ويذهب به، وقد يُجري الله على أيدي الأساة من المصلحين خيرا كثيرا، وغنما كريما، وآثارا حميدة.
من أجل ذلك ندب الله إلى الإصلاح، وحضّ عليه في غير آية من كتابه، حتى قضى بأنه لا خير في كثير من كلام الناس ونجواهم:
{إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} ورغّب فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى جعله أفضل الصدقات، وفضله على نوافل العبادات. روى الطبراني عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أفضل الصدقة إصلاح ذات البين». وروى الترمذي وغيره عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«ألا أخبركم بأفضلَ من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى. قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدِين». ومن أوضح الدلائل على خطر الإصلاح وجليل شأنه وعظيم عناية النبي -صلى الله عليه وسلم به- أن رخَّص في الكذب فيه، مع أن الكذب شعبة من شعب النفاق التي لا تجتمع هي والإيمان أبدا، والكذب في الإصلاح أن يبلغ المصلحُ كلا من الخصمين ما لم يقله صاحبه قصدا إلى تأليف القلوب، وتقريب المودة، حتى يحل الوئام محل الخصام، والوفاق محل الشقاق، وذلك من أسمى المقاصد التي جاءت بها الشرائع والأديان، وبُنِيت عليها سعادة بني الإنسان.
وموضع آخر رخَّص النبي -صلى الله عليه وسلم- في الكذب فيه، وهو حديث الرجل زوجه، وحديث المرأة زوجها، كأن يثني كل منهما على صاحبه بما ليس فيه، توطيدا لعقدة الزواج والألفة، وتوثيقا لآصرة المحبة والمعاشرة.
وموضع ثالث وهو الحرب، والكذب فيها سلاح حاد، يعرفه كل من المتحاربين، ويستعمله للإيقاع بصاحبه والتنكيل به، ما أمكنه الخداع وواتته الفرصة، ورب كذبة أنقذت دولة وهوت بأخرى. و«الحرب خدعة»(2).
وبعد، فلا بد لهذا الترخيص الذي رخص النبي -صلى الله عليه وسلم- من حكمة سامية؛ ولا بد لمن عرض لهذا الحديث -وهو حديث من لا ينطق عن الهوى- أن يحاول كشف القناع عنها، ليكون من هدي نبيه -صلوات الله وسلامه عليه- على بصيرة.
لقد جاءت الشرائع والقوانين قاطبة بذم الكذب وامتداح الصدق مساوقة للفطرة وموافقة للعقل، وأجمع الناس على ذلك قديما وحديثا، حتى عدوا من أصدق القول وأحكمه ما قال ابن المقفع: رأس الذنوب الكذب؛ هو يؤسسها، وهو يتفقدها ويثبتها.
أما الإسلام فإنه لم يرفع من فضيلة كما رفع فضيلة الصدق، ولم يَشِن من رذيلة كما شان من رذيلة الكذب، وحسبك ما جاء في حديث الصحيحين عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-:
«إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا». وما جاء في الموطأ عن صفوان بن سليم -رضي الله عنه- أنه:
«قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أيكون المؤمن جبانا؟ قال نعم. قيل: أفيكون بخيلا؟ قال نعم. قيل: أفيكون كذابا؟ قال لا». فإذا كان هذا بعض ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذم الكذب والتحذير منه فكيف يرخص فيه في هذه المواطن الثلاثة؟
لقد بُني الإسلام على أسس ثابتة، ومناهج محكمة، تكفل لمن استمسك بها في جملتها وتفصيلها سعادة الآخرة والأولى؛ ذلك بأنه لم يقف فيما أمر ونهى وأحل وحرم موقف التنطع والجمود، ولم يذهب مذهب السرف والمغالاة، وإنما سار مع المصلحة أنّى كانت، فبينا هو يرفع شأن الصدق إلى أن يجعله رأس الفضائل، تراه يحرِّمه إذا أدى إلى ضرر أو فساد، كما حرم الغيبة وجعل المغتاب آكل لحم أخيه ميتا، وحرم النميمة وأخبر بأنه: «لا يدخل الجنة نمام».(3) وبينا هو يخفض شأن الكذب إلى أن يجعله رأس الرذائل، تراه يحله بل يوجبه إذا أدى إلى حقن دم مصون أو حفظ حق واجب، فإذا اختفى امرؤ من ظالم يريد قتله أو أخذ ماله وسأل إنسانا عنه وجب على المسؤول أن يكذب في إخفائه، وكذا لو كان عنده وديعة وأراد الظالم أن يغتصبها وجب الكذب في إخفائها ولو حلف في سبيل ذلك، إعظاما للدماء وصونا للحقوق، فالكذب حرام إلا لضرورة ملحة أو رخصة مسوغة. ومن قواعد الشريعة أن: "الضرورات تبيح المحظورات".
غير أن الإسلام لم يَدعْ للناس أن يقدروا المصلحة ويحددوا الضرورة، وإنما تولى هو تحديدها، ونص على مواضعها، لئلا يترك مجال التأويل فسيحا تتلاعب به الأهواء والشهوات. ولا يرتاب أحد بعد الذي قدمنا من آثار الخصام أن الكذب في سبيل الوئام والسلام حسن محمود، بل هو خير من الصدق حينئذ، ومن المعروف أن للوسائل حكم الغايات.
أما الكذب بين الزوجين في تقارض الود، وتبادل المحبة، لا فيما يسقط حقا، أو يفضي إلى باطل، فهو من وسائل السعادة الزوجية التي توصي بها الأديان، ولا سيما دين السلام، ثم هو في جملته يرجع إلى الإصلاح، وإن شئت فقل هو وقاية للزوجين من الشقاق ومساوئ الأخلاق، والوقاية خير من العلاج. وأما الكذب في الحرب فهو في حقيقة الأمر ليس كذبا؛ لأن حال المتحاربين تنادي بألَّا يصدق أحدهما صاحبه وإن كان صادقا، وبأن يأخذ حذره منه ما استطاع.
على أنه يجمل بمن تحلى بفضيلة الصدق ألا يألو جهدا في التحرز من الكذب المرخص فيه، بالتعريض والتورية(4)، صونا للسانه عن الكذب الصراح. ومن ذلك ما حكى الله تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام، إذ قال لقومه: "إني سقيم" حين أراد أن يتخلف عنهم ليحطم أصنامهم، فظنوه مريضا فتركوه، وما به إلا مرض الغيظ من أصنامهم التي اعتزم تحطيمها. ومن ذلك قول أبي بكر رضي الله عنه -وقد سئل عن رفيقه وهو مهاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم-: من ذا؟ فقال: "هادٍ يهديني السبيل".
ألا إن الإصلاح بين الناس خصلة من خصال الشرف والمروءة، وخلة من خلال الفضل والنبل، وجزء من شرائع الأنبياء والمرسلين، بل هو عماد دعوتهم، وأساس رسالاتهم. وما أحوج هؤلاء البشر، وقد اصطخبت بينهم المعارك، واشتعلت فيهم نيران الخصومة إلى من ينهج في إصلاحهم منهج النبيين، ويستار فيهم سيرة الصادقين المخلصين:
{وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}.
---------------------------------------- 1 - إلا أن قولها: ولم أسمعه يرخص ...إلخ مما انفرد به مسلم في إحدى روايات الحديث. 2- لفظ حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه. و"خدعة" -مثلثة الخاء- وكهمزة. قال في القاموس: وروي بهن جميعا. 3- لفظ حديث أخرجه الشيخان عن حذيفة رضي الله عنه. وكفى به تهديدا للنمام ودليلا على مقت السعاية. 4- بأن يكون لكلامه معنيان يريد أحدهما وهو صادق، ويفهم السامع المعنى الآخر وهو غير ما يريد. =================================================== الموضوع: الإصلاح بين الناس. الشيخ / طه الساكت، من علماء الأزهر الشريف مصدرها: مجلة الأزهر- عدد المحرم سنة 1366هـ- المجلد الثامن عشر- الجزء الأول. | |
|