فقد أرشد الله سبحانه إليها بقوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}.
فقوله سبحانه: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} بيان لأن المقصود من حج وفود المسلمين من الرجال والنساء إلى مكان واحد هو الكعبة، أن يشاهدوا ما فيه نفع لهم وخيرهم ومصلحتهم، وقد أطلق سبحانه {مَنَافِعَ لَهُمْ} ليدل على أن المقصود كل ما فيه نفع لهم في دينهم ودنياهم، في العلم أو في التجارة، أو في السياسة، أو في الاقتصاد، وفي كل ناحية من نواحي النفع والإصلاح، ومن أظهرها وأهمها تقوية وحدتهم وأخوتهم، ووضع خطط تعاونهم وتناصرهم.
وذلك أن الأساس الذي بَنَى عليه الإسلام دعوته، والشعار الذي جعله عَلَمَ المسلمين وعنوانهم هو وحدة المسلمين وتآخيهم وتضامنهم وتناصرهم، وتغليب جامعتهم الإسلامية على ما بينهم من فروق في الجنسية أو القومية أو اللغة أو الإقليم؛ ولهذا نطقت نصوص القرآن والسنة بأن المؤمنين إخوة، وبأن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، وبأن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وكالجسد الواحد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
وقرر علماء المسلمين أن دار المسلمين دار واحدة وإن اختلفت ملوكهم وجيوشهم ولغاتهم وأجناسهم، وأنه لا يتحقق بين مسلم ومسلم اختلاف في الدار، وإن تباينت التبعية السياسية وتباعدت الأقطار.
ومن أجل هذا شرع الله من العبادات وفرض من الفرائض ما يقوي هذه الوحدة، ويغذي هذه الأخوة، ويُمَكِّنُ المسلمين من جَنْيِ ثمار وحدتهم وأخوتهم؛ فَسَنَّ الجماعة في الصلوات الخمس في كل يوم ليتعارف أهل المنطقة الواحدة، وفَرَضَ الجمعة في كل أسبوع ليتعارف أهل المناطق في البلد الواحدة، وفرض الحج مرة في العمر ليجتمع المسلمون من مختلف الأقطار مرة في كل عام حول بيت الله الحرام وفي مهد الإسلام ومهبط الوحي؛ ليتذكروا مبدأ أمرهم، وما سادت به دولتهم ودعوتهم، ويتدارسوا شؤونهم، فيعرف المصري شئون الباكستاني والأندونوسي، ويعرف المراكشي شئون البولوني واللبناني، ويقف كل شعب على حال سائر الشعوب؛ وبهذا التعارف والتفاهم يضعون الخطط لمبادلاتهم التجارية والصناعية والعلمية، ولتناصرهم وتعاونهم على من يعتدي عليهم أو على مصالحهم، فهذا الحج هو مؤتمر إسلامي سنوي ينعقد بدعوة إلهية، وتلتقي فيه وفود الأمم الإسلامية وممثلوها في أطهر مكان بأصفى نفوس، وأنقى قلوب، محوطين بتوفيق الله، مؤيدين بمعونة الله، ليرسموا خطة تعاون المسلمين، ويقرروا ما يحقق آمالهم، ويعالج أمراضهم، ويوحد كلمتهم.
ولو عُني المسلمون بهذا المؤتمر الإلهي السنوي، وأوفد كل شعب إسلامي إليه بعوثًا من خيرة ما عنده من علماء السياسة والصناعة والتجارة وسائر شئون الدين والدنيا، وعملت حكومة الحجاز على تنظيم اجتماعات لهذه البعوث المختلفة، وتيسير السبيل لتعارفهم وتباحثهم- لو نُفذ هذا لكان للمسلمين في كل عام صوت إصلاحي إجماعي، يُسمع دَوِيُّه في العالم، ويترقبه المسلمون كل عام بآذان صاغية، وقلوب واعية...
ولكني أقول والحزن يملأ قلبي: إني شاهدت ألوف المسلمين بمكة بالمسجد الحرام يستقبلون قبلة واحدة، ويؤمهم إمام واحد، ويؤمنون بإله واحد، ولكن لا تفاهم بينهم ولا تعارف، ولا تبادل لحديث في شأن ديني أو دنيوي؛ وفي المكان الواحد يلتقي المصري والباكستاني والزنجي والأفغاني والجاوي، وكأنهم لا تجمعهم جامعة، ولا تربطهم أخوة؛ لأن كل واحد منهم لا يفهم لغة أخيه، ولا يستطيع مبادلته أي حديث؛ ولهذا أرى واجبًا على كل شعب إسلامي أن يجعل اللغة العربية مادة أساسية في مدارسه يتعلمها الناشئون، وينشأون على النطق بها والكتابة بها، وهذه أول خطوة لتفاهم المسلمين وتعارفهم، واستثمار وحدتهم وأخوتهم.
ومن العجب أن بعض الدول الإسلامية الآن تعد العدة للدعوة إلى عقد مؤتمر إسلامي، وكان أحق بها أن تعد العدة وتبث الدعوة للانتفاع بالمؤتمر الإسلامي السنوي الذي ينعقد بدعوة من الله وتُهرع إليه الوفود بإيمان وإخلاص ابتغاء مرضاة الله، فلتكن وجهة المسلمين أن ينتفعوا كل عام بقرارات هذا المؤتمر، ونتائج جهود هؤلاء المؤتمِرين، وأن يستثمروا إخلاص البعوث وصفاء نفوسهم حول الكعبة وفي مهد الإسلام ومهبط الوحي بالقرآن.