فقد أرشد إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه»، وبقوله: «إذا لقيت الحاج فسلم عليه وصافحه، ومُرْهُ أن يستغفر لك قبل أن يدخل بيته، فإنه مغفور له»، فكما أن الصلوات الخمس كفارات لما بينهن من الخطايا، والزكاة طهرة للمزكي من الشح والحرص والقسوة والأنانية، والصوم طهرة للصائم من الاسترسال في الشهوات واتباع النفس الأمارة بالسوء، فالحج طهرة للحاج من ذنوبه وآثامه، يغسل نفسه، ويزيل ما ران على قلبه، ويجعله دائما على ذكر من ربه، وذلك أن الشارع الحكيم شرع كل نسك من مناسك الحج بمثابة طور من أطوار التطهير للنفس من ذنوبها وآثامها، حتى إذا أتم الحاج مناسك حجه كانت مَرَّتْ نفسه بعدة أطوار تطهيرية، فينتهي حجه وقد غسل نفسه وطهر قلبه وعفا الله عنه وغفر له.
فأول ما يبدأ به الحاج: الإحرام، وهذا أول درس رياضي تهذيبي لنفس الحاج، فإن الحاج إذا تجرد من ثيابه ورأى نفسه عاري الرأس شبه الحافي، ورأى الملوك والسوقة والأغنياء والفقراء والمخدومين وخادميهم بزي واحد، هانت في عينيه مظاهر الدنيا، وتذكر مبدأه ومعاده، وآمن بأن العظمة لله وحده، وإذ ذاك يذكر معاصيه وسيئاته، ويضرع إلى ربه، ويلهج لسانه: لبيك اللهم لبيك!.
فإذا وصل بهذه الحال إلى مكة، وصل بنفس خاشعة ضارعة باكية آسفة، فيجد الضالة التي ينشدها، والفرصة التي يغنمها وهي الكعبة، فيطوف بها داعيًا مستغفرًا، مهللا مكبرًا، مؤمنًا بأنه في أكرم مكان عند الله، فيه تقبل التوبة، وتغفر الذنوب.
وإذا انتقل من الطواف بالكعبة إلى السعي بين الصفا والمروة، كرر دعاءه واستغفاره.
وإذا وقف بعرفات، وذكر وقفة الرسول بحجة الوداع يخطب خطبة الوداع، وواجه جبل الرحمة – هنالك تفيض العين بالدمع، وينبض القلب بالتوبة، ويلهج اللسان بالاستغفار، ويخيل إلى الإنسان أنه نال رضا ربه، وخرج من ذنوبه، وانتصر على هواجس نفسه ووساوس الشيطان، فيرمز لهذا الانتصار برمي الجمرات، ويعود من مناسك الحج وقد ألقى أوزاره، وشعر أن الله قد غفر له.
هذه المعاني الروحية والرياضية التهذيبية لمناسك الحج، تقتضي من كل حاج أن يفكر فيها، وأن يعمل على تحقيقها؛ فإن الشارع الحكيم ما شرط الإحرام لمجرد أن يكشف الإنسان رأسه، وأن يتجرد من ثيابه؛ وما فرض الطواف لمجرد أن يدور بأحجار، ويتمسح بأستار؛ وما أوجب السعي بين الصفا والمروة لمجرد أن يجري عدة أميال؛ ولا فرض الوقوف بعرفة لرحلة جبلية؛ وإنما شرع هذا سبحانه لإصلاح نفسي، ورياضة تهذيبية، ولكني -والحزن يملأ قلبي- شاهدت الحجاج يُعنَون بالصور والأشكال، ويتحرجون ويتزمتون، ويحملون أنفسهم بتزمتهم مشقات تلهيهم عن التفكير في حكمة تشريع أو إصلاح نفس، والله سبحانه ما قصد بأية عبادة مجرد صورها وأشكالها، وإنما قصد حكمها وروحها، وآثارها في إصلاح الجماعات، وتهذيب نفوس الأفراد.